IMLebanon

ماذا حقّقت الثورة بعد شهرين على انطلاقتها؟

 

عندما تصبح السُلطة أمام تحدّي استرجاع الشرعية

 

مواجهات عنيفة بين الحَراك والقوى الأمنية أمس

 

لم يمضِ على ثورة اللبنانيين الكثير من الزمن لتقييمها كحدث تاريخي في البلاد. لكن لا شك أن ما حصل ليس تفصيلاً في تاريخ لبنان، ومن المؤكد أن ما بعده لن يكون كما قبله، مهما كان هذا الاختلاف نسبيا في النتائج والتقييم.

 

ليس مهما هنا توصيف الهبّة الشعبية التي كتبت تاريخاً جديداً للبنان. قد تكون ثورة، أو إنتفاضة أو حتى حراكاً شعبياً، أو قد يجمع الحدث كل تلك الصفات أو ما بينها، لكن يبدو أنه أسّس لمرحلة مستقبلية مغايرة، خاصة على صعيد أدوات التغيير التي يمكن للبنانيين اعتمادها سبيلاً للخروج من محنهم المتكررة والناتجة أساساً عن نظامهم السياسي المُولد للأزمات كما للحروب.

 

ولعل تقييم أهمية ما حدث وتقديم بعض مما تحقق، يجب أن ينبعا من التغيير الكبير الذي حققاه في وجدان اللبنانيين وفي نمط تعاطيهم مع سلطة أساءت معاملتهم واستهانت بهم. هنا، يمكن الحديث عن ثورة قلبت المفهوم التقليدي لتعاطي اللبنانيين مع تلك السلطة. هي ثورة بهذا المعنى، وليس بالضرورة تسميتها كذلك استنادا الى وسائلها الشعبية وطبيعة قواها وأهدافها كأي ثورة في استلام الحكم، وهو الأمر شبه المستحيل في بلد طائفي كلبنان.

 

التأسيس في 2015

 

بدأ اللبنانيون حراكهم الاعتراضي عبر الاقتصاد وتوسعوا إلى السياسة والقضاء والأمن وغيرها. ومن أهمية انتفاضتهم بمكان شموليتها، فقد انضم اليها لبنانيون من طوائف مختلفة ومن طبقات ومشارب ومناطق متنوعة. لذا، بدت السلطة حائرة أمام كيفية مواجهة خصومها، الذين بدوا أكثر تصميما وخبرة عن نظرائهم العام 2015 الذين هبوا في وجه السلطة تنديدا بأزمة النفايات، وهم الذين خرج المحتجون اليوم من رحمهم. حينها، اصطدم الحراك بمؤامرة قوى السلطة وبالطائفية.. وأيضا بنقص الخبرة وضعف التنظيم، لكنه أسس لما سيتكرر من مواجهات مع السلطة.

 

في جعبة الثورة الكثير مما تحقق، وبينما أدرج الحراك أهدافا واسعة وشاملة لما يريد، إستقر على جملة من الأمور كان على رأسها استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، وهو ما تحقق. علما أن خضوع السلطة وتقديمها ورقة إقتصادية لم تكن مألوفة في تاريخ لبنان يعد إنجازا حقيقيا لم يرد المنتفضون الإقرار به وتقديم السلطة في مظهر المتنازل للشعب.

 

والواقع انه قبل استقالة الحريري ومن بعدها، طرأ عامل بالغ الاهمية على المشهد السياسي. لقد انكسرت هيبة من هم في السلطة وأصبحت مكوناتها متهمة عن حق بأنها قادت البلاد إلى الخراب والإفلاس، بغض النظر عن تفاوت المسؤوليات بين المتسلطين على الشعب وفتراتهم الزمنية التي حكموا بها.

 

على أن تعرية الثورة للسلطة برز أيضا من تمكن الحراك من فرملة اندفاع السياسيين الأناني نحو فرض ضرائب جديدة، وسيكون على اللبنانيين دفع السلطة الى تعديل نظرتها، أقله، تجاه سياستها الاقتصادية برمتها، في اتجاه اقتصاد أكثر عدالة وإنتاجية.

 

اليوم، ليس شعار «كلن يعني كلن» جديدا، لقد أطلقه الحراك العام 2015، ولعله بات اليوم التعبير الأصدق عن واقع شعور اللبنانيين تجاه طبقتهم السياسية التي باتت في موقع الدفاع والمتهم. وثمة ما يعطي رمزية كبيرة لما حدث. الأحزاب السياسية والمتحالفين معها باتوا يسعون وراء شرعية نزعتها شرائح واسعة من اللبنانيين، وإن كان من غير الواقعي لا بل من الظالم المطالبة بسلطة بمعزل عن هؤلاء السياسيين، ناهيك عن شبه استحالة لهذا الأمر، برغم أن الثوار يودون لو تم كنس الفاسدين جميعا من الحياة السياسية.

 

وبينما من المنصف القول إن ما بعد 17 تشرين الأول، تاريخ اندلاع الثورة، ليس كما قبله، من الواجب التريث أيضا قبل رفض كل ما جاءت به الانتخابات النيابية الماضية، وبات الواجب توجيه الجهود نحو قانون عادل للانتخابات يمهد الطريق لمجلس جديد أكثر تمثيلا لشرائح قاطعت الانتخابات الماضية. وهو هدف تجمع وراءه الحراكيون بعد اهتزاز شاب شعاراتهم في البدء.

 

أتاحت الانتفاضة رفع الصوت عاليا في وجه الفساد، ودفعت بسياسيين الى معارك في وجه نظرائهم على خلفية هذا المشهد ولتبرئة أنفسهم. من هنا، لم يكن غريبا أن يقوم الحراك بمحاصرة المجلس النيابي ومؤسسات رسمية اعتبروها رمزا للفساد وللسرقات، وهو ما أحسن الحراك بالتركيز عليه بعد بروز نقطة ضعف تمثلت في مسألة قطع الطرقات التي أبعدت كثيرين عنه، خاصة بعد استغلالها من قبل السياسيين أنفسهم.

 

الطابع الوطني الجامع

 

ولعل أجمل ما في المشهد اللبناني للانتفاضة كان الطابع الجامع لها. ومهما مرّ على لبنان من تظاهرات إدعى منظموها أنها أحاطت بالمشهد اللبناني بمختلف تلاوينه، فقد حققت الثورة، أقله في مرحلتها الأولى، مشهدا هو الأول في التاريخ اللبناني. وتحولت الساحات، ووسط بيروت أهمها، إلى مزار للمحتجين من كل انحاء لبنان، مثلما كسر اللبنانيون الحواجز للاختلاط مع الآخر على مساحة الوطن، وهو مثال على تقدم الاحتجاجات إيجابا عما كانت عليه في العام 2015 حين تمحورت معظم الاحتجاجات في العاصمة.

 

وفي موازاة كل ذلك، قدم هذا الإنجاز الشعبي بعض المشاهد التي ما كانت مألوفة في الماضي، مثل مشهد المجتمع المدني، ومهما اختلف اللبنانيون حوله وبرغم ما وجه إليه من اتهامات بعضها ليس بعيدا عن الحقيقة، إلا أنه أرسى معادلة جديدة ليس لأية دولة أن تتقدم من دونه. وصاحبت ذلك مشاهد لا تقل رمزية مثل بروز الدور الطاغي للشباب، ودور المرأة اللبنانية وتجاوزها المطالب النسوية التقليدية لاتخاذ مواقف سياسية هي في صلب مطالب اللبنانية، وبروز دور الطلاب برغم صغر سنهم، والأهم كان مشهد النقابات التي انتفضت بدورها على دور تدجيني أرادته لها السلطة وشرعت به منذ تسعينيات القرن الماضي.

 

اليوم، بات صعبا على السلطة، وأية سلطة غيرها في العالم، أن تحتوي مطالب شعبها. وفي لبنان، في ظل الفورة الإعلامية ووسائل التواصل الإجتماعي، لم يكن غريبا أن تُفجر الضريبة على الـ»الواتساب» غضب اللبنانيين، وهو بات وسيلة غاية في الأهمية في نقل مشهد الانتفاضة على السلطة.

 

رقابة في الشارع

 

والحال أن لبنان الذي يعيش في زمن الثورات العربية، ومهما استقر الرأي على ماهية تلك الثورات وأسبابها، سيبقى على موعد دائم مع انتفاضة متجددة للبنانيين.

 

وإذا تحقق ما يريده المنتفضون من خطوة أولى مقبلة مؤداها تشكيل حكومة من الأخصائيين تؤسّس لمحاسبة المسؤولين عن الفساد وتمهد لانتخابات نيابية عصرية مقبلة، فإن ذلك لن يؤدي بالطبع الى انتهاء مهمة الثوار.

 

سيكون على هؤلاء البقاء في الشارع رقباء على السلطة وأدائها، وبعد أن تمكنوا من إدخال قيمهم الجديدة على الساحة، بات عليهم تنظيم أنفسهم وتأطير تحركاتهم في ما يشبه حكومة الظل. لا يستدعي ذلك بالضرورة الاندماج مع بعضهم البعض، لكن قد يكون من المفيد الاشتراك في مجالس مناطقية تحميهم من العشوائية الظاهرة في بعض التحركات التي استدعت مظاهر مواكبة اتخذت صفة طائفية وهددت سلمية الحراك، وقد تهدد مستقبلا السلم الأهلي.

 

يبدو من الواضح أننا أمام أزمة طويلة ومعقدة، يتداخل فيها الطابع الخارجي مع الداخلي، وسيكون على الحراك مواجهة الضمور في مسيرته الذي بدا بعد فترة من انتفاضته، لكنه سيبني توهجه على سقطات السلطة التي يبدو أنها لا تزال تشتري الوقت ولا تتعاطى مع الواقع على أساس المتغير الكبير الذي حدث منذ تاريخ 17 تشرين الأول.