تبدو أجواء الحراك الشعبي في الساعات الأخيرة مغايرة نوعا ما لتلك التي سادت فور تسمية الدكتور حسان دياب لرئاسة الحكومة.
حينها، مع حصول دياب على غالبية نيابية خجولة لتولي التشكيل الحكومي، ساد نقاش جدي بين مجموعات الحراك حول ماهية التطورات التي حصلت وسبل الخروج من الأزمة وما إذا كانت تسمية دياب تعد تسوية للبلاد أم لا. وغلب رأي معارض لتسمية دياب ورافض للحوار معه ناهيك عن التوزر في حكومته. لكن سجل خرق على هذا الصعيد من قبل مجموعات من المنتفضين انتقدت «الرفضية» الدائمةالتي يقع الحراك فيها، داعية الى تسوية «مشرفة» للثورة مع السلطة، وذلك مرحليا حتى اتضاح نية دياب.
كان الرأي الثاني يقوم على تنوع سياسي يغلب عليه طابع مقربين ومتعاطفين مع قوى ما يعرف ب 8 آذار، إضافة الى مجموعات متواجدة في الحراك وتنشط فيه مثل «هيئة تنسيق الثورة» و»مجموعة الشعب يريد إصلاح النظام» وغيرهما..
وجهة النظر هذه تعتبر حتى اليوم، ان لا مانع من الحوار مع الرئيس المكلف بشرط أن تكون التشكيلة الحكومية المزمعة مؤلفة من مستقلين بالفعل، وليس من أشخاص وكلاء عن أصيلين فاسدين يأتي بهم من سبق للبنانيين تجربتهم فيكونون وكلاء لهم في السلطة ما يعد التفافا على الثورة. ويشترط هؤلاء أن يكون برنامج الحكومة قائما على إقرار قوانين استقلالية السلطة القضائية وإلغاء الحصانات واستعادة الاموال المنهوبة، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة الى الحراك.
وهم يطالبون الحكومة بصياغة قانون انتخابي يعتمد النسبية، لكن ليس على طريقة القانون الاخير الذي جرت على أساسه الانتخابات، بل على أن يكون لبنان دائرة واحدة، من دون أن يتأخر ذلك عن أشهر قليلة (6 أشهر كحد أقصى) من نيل الحكومة الثقة.
نقطة التحول نحو السلبية
والواقع أن وجهة النظر هذه لم تكن مخاصمة لراديكاليي الحراك كون دياب ليس شخصية مُستفزة كغيره. لكن مع الوقت، تكشفت أسماء للتوزير وتسربت أخرى، وسرت اتهامات لوزير الخارجية جبران باسيل بأنه من يشكل الحكومة (وهو أمر مبالغ به)، ما عززه كلام رئيس الجمهورية ميشال عون حول أحقية باسيل بذلك، ومن ثم وردت أنباء عن استمرار التشكيل السياسي السابق في انتقاء الوزراء مثل الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل، ما عزز المخاوف من تشكيل ما يعرف اليوم بـ»حكومة اللون الواحد». ومع هزالة تمثيل الشخصيات التي استقبلها ديابفي الايام الاولى على أساس تمثيلها للثورة، حصل تغيير كبير في وجهة النظر داخل المنتفضين والتي تقول بالحوار مع دياب أو التي تقبل بالتوزير.
واستقر الرأي عند الغالبية الساحقة في الحراك على موقف سلبي رافض للتوزير، كما رفض الحوار مع رئيس الحكومة المكلف، وحصل خلاف داخل «هيئة تنسيق الثورة» نفسها التي دعت الى لقاء عام لـ»حماية الثورة» بعد كل هذا الأخذ والرد. وفي موازاة ذلك، احتفظت أقلية صغيرة بالرغبة بالحوار مع دياب، لكن على أساس تحقيق مطالب الثورة، مثل «الشعب يريد إصلاح النظام»، وهو ما يضعها عمليا في خندق الغالبية وليس في محور الخصم للثورة.
في موازاة ذلك، إستمر حزب «سبعة» في الدعوة الى تنحي دياب، وهو حال «المرصد الشعبي لمكافحة الفساد» الذي ينشط حقوقيا ويذهب اليوم الى خطوات تصعيدية ترقى الى نوع من العصيان المدني، ومجموعة «كلنا وطني» التي تقوم على مجموعات تضم شخصيات ذات نزاهة طرح بعضها للتوزير ورفض.. في الوقت الذي استمر فيه يسار الساحات على موقفه الرافض «من حيث المبدأ» لتولي دياب مع تركيزه «على البرنامج قبل الأشخاص».
من ناحية الرئيس المكلف، فقد بدأ يضيق ذرعا بالموقف «العدائي» لمجموعات الحراك تجاهه، علما أنه فوجىء بهزالة تمثيل من التقاهم على أساس انهم من الثوار، ففوجىء بضعف تمثيلهم، كما ان بعض من قصده قام بمراجعة سريعة لموقفه المؤيد المتسرع لدياب.
توزير شخصيات تُرضي الحراك؟
إزاء كل ذلك، قد يكون سبيل الحل في توزير شخصيات محترمة ونزيهة غير ذات ماض سلبي في السلطة، وهذا إن حدث، قد يحصل على تأييد مجموعات كبيرة في الحراك، وسيُجنبه وحول السلطة ودهاليزها حيث لا قدرة للحراك على مجاراة أساطين السياسة والفساد المتمرسين في لعبة السلطة. علما ان التسريبات الاخيرة لأسماء الوزراء قد خلت تقريبا من أسماء مجموعات الحراك بعد تجمعهم وراء موقف مخاصم للتوزير.
وبينما يصر كثير من الثوار على مواصلة التحرك حتى تحقيق المطالب، يرى البعض ان دياب سيتمكن من تشكيل حكومته، خاصة وانه حاصل على تقاطع دولي وإقليمي ومحلي، لكنه سيصطدم بصعوبة الإقلاع بها، وإذا تمكن من ذلك، فهي لن تعمر طويلا ولن تكون في تشكيلتها قادرة على مواجهة الظرف الاستثنائي الذي تمر فيه البلاد.
والحراك يحضر خطواته اليومية مثلما يخطط لتحركاته على المدى البعيد. هو سيفعل احتجاجاته أمام المقار الرسمية وسيفتتح تظاهرة دائمة أمام منزل دياب نفسه حتى تنحيه عن مهمته، لكنه يستعد لمرحلة مواجهة صعبة يأمل أخصام الحراك أن تستنزفه بعد مرور أسابيع طويلة على اندلاع تحرك 17 تشرين الأول.
النأي عن حكومة الانهيار
وسيكون من حظ الحراك أن لا يتوزر في حكومة أزمة كتلك التي يُحضر لها. ولعل دور الرقيب أفضل من التوزر في «محرقة» حكومة «الانهيار» وتوفير الشرعية للفاسدين، بينما سيكون عليه تنفيذ مراقبة دقيقة لعمل السلطة السياسيةوضبط إيقاع المهل الزمنية للإنجاز والإصلاح، على أن لا يتم الدخول الى السلطة سوى بعد أجراء انتخابات نيابية نزيهة على أساس قانون حديث ينزع الشرعية عن السلطة الحالية.
لكن بعض الأسئلة الكبرى التي يطرحها الحراك اليوم على سبيل المخاوف مما تخبئه المرحلة المقبلة، هي على الشكل التالي: هل دياب هو فعلا رجل المرحلة؟ هل لديه النية لاجتثاث الفساد وملاحقة قضية استعادة الاموال المنهوبة؟ هل سيكون قادرا على مواجهة من أوصله إلى سدة رئاسة الحكومة؟ هل سيتمكن من تنفيذ برنامع إصلاحي يأتي القانون العادل للانتخابات على رأسه؟
وفي جعبة الحراك أسئلة غيرها، لكن التحدي الاهم بالنسبة اليه سيكون الإضافة على زخم تحركاته في ظل الرهان على إنهاك الحراك لإنهائه، وتعزيز سلميتها عبر لفظ تحركات تؤذي الناس وتبعدهم عنه، كما رفضه لاختراق أحزاب السلطة للانتفاضة كما حصل في السابق، وذلك بعد إعلان البعض عن رفضهم المشاركة في الحكومة ما يعني انهم سيتخذون المعارضة سياسة لهم، ومن يدري قد يخترقون حينها الحراك؟
على أن الأهم سيبقى في حفاظ الحراك على تماسكه، طالما أن الوحدة متعذرة في ظل رخاوة جسم الثورة وتعدد رؤوسها، والعمل على استقطاب كل الناقمين على السلطة الحالية والموجوعين من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، ومن بينهم مناصري الاحزاب نفسها التي حاولت امتطاء الحراك وسرقة شعاراته.