عاش قاسم سليماني ذراعاً عسكرية للثورة الإيرانية في محيطها العربي وغير العربي، ولا بد من أن قطع هذه الذراع بضربة أميركية، سوف يطرح هذا السؤال: هل يراجع نظام حكم المرشد نفسه، أم أنه سيظل مثل التنين، كلما انقطعت له ذراع نبتت في مكانها ألف ذراع؟!
والحديث عن امتداد نشاط الذراع إلى المحيط غير العربي له ما يبرره بالطبع، فمما قيل في لحظة مقتل سليماني على طريق مطار بغداد الدولي، إنه كان في طريق عودته من رحلة عمل إلى سوريا ولبنان، التي ينشط فيلقه فيهما، وفي العراق، وفي اليمن، ثم في أفغانستان غير العربية التي تربطها حدود مباشرة مع إيران!
وللإجابة عن السؤال المطروح، ربما نكون في حاجة إلى العودة عدة شهور إلى الوراء، وتحديداً إلى شهر فبراير (شباط) من العام الماضي، الذي احتفلت فيه طهران بمرور أربعين سنة على قيام الثورة. وقد كانت المفارقة التي لم تستوقف كثيرين في أجواء الاحتفالات وقتها، أن المرشد خامنئي قد منح سليماني وسام «ذو الفقار»، الذي يوصف بأنه أرفع وسام عسكري في الجمهورية!
ولم تكن المفارقة في مجرد منح الوسام إلى قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» الإيراني، فالمؤكد أنه ليس أول القادة العسكريين الإيرانيين الذين حصلوا عليه، ولن يكون آخرهم. وإنما المفارقة كانت في معنى أن يحصل عليه هذا الشخص بالذات!
ذلك أن مرور أربعة عقود من الزمان على قيام الثورة، كان أدعى إلى مراجعة خطوات المسيرة من جانب قادتها بمنطق حساب الربح والخسارة، وبمنطق ما إذا كان ما مضى من الخطوات يغري من حيث طبيعة الحصيلة على الأرض، بمواصلة السعي في الطريق ذاته، أم يدعو إلى التوقف لحظات على سبيل التأمل، وعلى سبيل أن ما فات يجب أن يكون محل نظر وتقييم من جديد؟!
ولكن ذهاب الوسام إلى سليماني تحديداً، وفي هذا التوقيت على وجه التحديد، كان يشير إلى أن مسعى قائد «فيلق القدس» الراحل، كان لا يزال يصادف مزيداً من المباركة من ناحية المرشد، الذي وقف يبكيه بالدموع وهو يصلي عليه في لحظة الوداع!
وعندما قرأت في أجواء الضربة الأميركية، أن اللواء حسين دهقان، وزير الدفاع الإيراني، يقول كذا وكذا على سبيل التهديد برد الفعل القادم من جانب بلاده، استوقفني اسم الرجل على الفور، وسألت نفسي عما إذا كان أحد منا في المنطقة يتذكر هذا الاسم، أم أنه يكاد يكون مجهولاً تماماً، مع أنه وزير الدفاع المسؤول في حكومة الرئيس حسن روحاني؟!
وقد رأيت في ذلك دلالة واضحة، تشير إلى أن جمهورية خامنئي لا تزال تعيش مرحلة الثورة، رغم مرور كل هذه السنين على قيامها، وأنها جمهورية تجد متعة في الوقوف بثورتها عند مرحلة عمرية لا تريد أن تفارقها إلى مرحلة الدولة المسؤولة في محيطها كله، وفي مجتمعها الدولي على امتداده. إنها جمهورية تحتفي كثيراً بحالة من المراهقة السياسية تصاحب في العادة زمن الثورة وتقترن به، ولا تقيم الجمهورية نفسها وزناً لفكر الدولة الذي لا بد من أن يعقب عصر الثورة ويستقر في مكانه!
وهذه النقلة من حضن الثورة إلى رحاب الدولة، ربما تكون هي العقبة الأكبر التي لا تعرف حكومة الملالي في طهران كيف تتجاوزها وتقفز فوقها. وهي للأمانة مسألة ليست سهلة؛ لأن الحديث عن الثورة، وعن تصديرها، وعن السعي إلى الوصول بها إلى خارج حدودها، فقرة في الدستور الإيراني نفسه، بما يعني أن كل ذلك أقرب إلى العقيدة لدى المرشد ورجاله، منه إلى أي شيء آخر!
وهنا بالضبط تكمن العقبة وتنام، في انتظار رجل يمتلك شجاعة القفز فوقها وتجاوزها، لعل الدولة الإيرانية تتخلص من قبضة هذا التوجه السياسي المراهق في محيطها من حولها!
لم يكن أحد يسمع تقريباً عن دهقان، وكان اسم سليماني في المقابل ينافس نجوم السينما في وسائل الإعلام، من حيث ذيوعه، وانتشاره، وسريان أخباره. وكان المعنى أن وزير الدفاع الذي تتصل طبيعة مهمته بالدولة، وبالدفاع عنها، لا بالثورة، هو رجل يعيش في الظل ويعمل على الهامش، وأن الرجل الذي يتعلق نشاطه بالثورة، وبتصديرها، وبتوسيع دائرتها، إنما يمرح ويسرح ويمارس النشاط المكلف به في كل مكان!
وكان المعنى أيضاً أن وصول الثورة إلى سن الأربعين، وهي سن متقدمة، قياساً على أعمار الثورات في العادة، لم يكن كافياً أمام الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عنها، لفطامها، والوقوف بها لحظات مع النفس ومع الغير على السواء!
فما أكثر الدعوات التي انطلقت في فبراير من العام الماضي، في اتجاه تنبيه حكومة الملالي الإيرانية، إلى أن أربعين عاماً من العربدة في الإقليم تكفي، وأن المضي في طريق تصدير الثورة بعد هذه السن مسألة لن تكون ذات جدوى، ولا حتى قبل هذه السن بطبيعة الحال!
وكانت كل المؤشرات تقول إن طريق الثورة يقود إلى مزيد من المعاناة لكل إيراني، ولا نزال نذكر كيف أن شكوى روحاني على قبر الخميني في الذكرى الأربعين لثورته، من أن جمهوريتهم تواجه صعوبات اقتصادية كما لم تواجهها من قبل، كانت شكوى ترسخ حديث المعاناة الإيرانية على مستواها الشعبي وتؤكده!
النتيجة أن خلايا الثورة كانت على مدى عقود أربعة تنمو وتتكاثر، وكانت خلايا الدولة تضمر وتموت، كان صوت الثورة يعلو، وكان صوت الدولة يخبو، كانت الأرضية التي تعمل عليها الثورة تمتد وتتسع، وكانت الأرضية التي تقف عليها الدولة تتقلص وتهتز!
الثورة لا تزال تغلب الدولة في إيران، والدولة لا تزال تبحث لها هناك عن مكان، ولكن عثورها على هذا المكان لن يحدث على الأرض، إلا إذا طرأ تغيير حقيقي في العقيدة الحاكمة أولاً، ولن يحدث إلا إذا آمن نظام حكم المرشد، بأن بقاء الدولة أسيرة للثورة إلى الآن، قد صار عبئاً ضخماً عليه، وعلى الشعب الإيراني في عمومه، بمثل ما هو عبء على المنطقة!
الثورة في إيران يجب أن تحال إلى التقاعد في أسرع وقت، والدولة يجب أن تتقدم لتأخذ موقعها، وتملأ مقاعدها، وتمارس مسؤوليتها!