بدأ الشارع التحرّك مجدداً، ونزل لبنانيون على الأرض قارعين جرس الإنذار الأخير بعدما منحوا حكومة الرئيس حسان دياب فرصة يتبيّن يوماً بعد يوماً أنها ليست “قدّها”.
لم يسمع جيداً الرؤساء الثلاثة الذين شاركوا في قدّاس مار مارون عندما استشهد المطران بولس عبد الساتر بعبارة: “ما حدا بيقدر يحبس المي، والناس متل المي إلا ما تلاقي منفذ تنفجر منو”، وفعلاً بدأت مياه الثورة الراكدة التحرّك وأعطت إنذاراً قد يترجم على أرض الواقع قريباً. من طرابلس إلى البقاع والجنوب، جبل لبنان وبيروت، بدأ الناس التحرّك، وكان لافتاً تحركات الغبيري والزوق، حيث نزل الناس أول من أمس في بروفا أولية لما سيكون عليه المشهد في الأيام المقبلة. ولا يعلم أحد كيف ستتجه الأمور، لكن الأكيد أن العوامل التي حرّكت الناس حسب الثوّار، أو ستحركهم في المستقبل كثيرة وأبرزها:
أولاً: إنكشاف حكومة الرئيس حسّان دياب أمام الرأي العام وتبيان عجزها عن معالجة الملفات المطروحة وتأكّد الناس أنها ليست حكومة مستقلين بل إنها حكومة سياسيين ومستشارين مقنّعة عكس ما نادى به الشارع.
ثانياً: فشل الحكومة في فرملة الإنهيار والتخبّط الحاصل في أكثر من ملف، فلا حلول جديّة لأزمة الكهرباء بل إن المناكفات السياسية على أشدّها، ولعل قضية اليوروبوند من أبرز المسائل التي كشفت التخبّط الحكومي.
ثالثاً: عدم لمس الناس أي خطوات إصلاحية جديّة، فلم يروا أي فاسد في السجن، ولم تُطلق يد القضاء في المحاسبة، وبالتالي فإن الوضع ينحدر بسرعة قياسيّة.
رابعاً: إستفحال الغلاء بنسبة وصلت إلى المئة في المئة، وانتشار الفقر والجوع، فالناس لم يعودوا يحتملون المزيد، وسط استمرار المصارف بحجز أموال المودعين، وارتفاع الدولار إلى مستويات قياسية.
خامساً: أزمة “كورونا” وعدم أخذ التدابير اللازمة وإبقاء خطوط الطيران مفتوحة مع إيران لأسباب سياسية، دفعت الناس إلى النقمة على الحكومة واعتبارها أنها تستورد “كورونا” من إيران والخارج. كل هذه العوامل وضعت الناس أمام واقع جديد، ولم يبق أمامهم إلا الإنتفاض على الوضع المزري والتحرك في الشارع، لأن السلطة السياسية غير راغبة في إيجاد حلول، وتريد الإستمرار في السياسة التي كانت متّبعة قبل ثورة 17 تشرين وكأن هذه الثورة لم تغيّر أي شيء في الواقع الجديد.
وما يلفت الإنتباه أكثر عودة الحراك إلى المناطق الشيعية، خصوصاً في الغبيري على رغم محاولات القمع، لأن الأزمة الإقتصادية والمعيشية تطاول الجميع ولا تفرّق بين سني وشيعي أو مسيحي ومسلم، وبالتالي فإن كل محاولات “حزب الله” ضبط الساحة الشيعية والقضاء على الحراك الشعبي فيها تبوء بالفشل، لأن غياب المعالجات الوطنية ستدفع كل الناس إلى الإنتفاضة من جديد، وعندها لا تنفع الدولارات الأميركية القليلة التي يعطيها “الحزب” لمقاتليه من أجل ضبط ساحته.
في المقابل، فإن التحرّك في الساحة المسيحية يستعيد زخمه، فقد نزل حراك الزوق وجل الديب وجبيل مجدداً إلى الشارع ما يوحي بأن كثافة المتظاهرين ستكون أكبر في الأيام المقبلة، خصوصاً أن العهد و”التيار الوطني الحرّ” الحاكمين لم يقدّما أي حلول أو معالجات للأزمة الإقتصادية العاصفة، في حين أن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع أعلن أخيراً أن مناصري الحزب في قلب الثورة وأنهم سيتحركون متى تدعو الحاجة، وهذا الأمر يعطي قوة دفع جديدة للثورة التي هي بحاجة إلى حزب منظّم يساندها في معركتها ضدّ السلطة، التي تتسلّح بأدواتها الترهيبية والترغيبية لقمع الثوّرة.
ويؤكّد الثوار أن الحراك في الشارع لن يكون منظماً أو مخططاً، لأنه لا توجد أحزاب كبرى تديره، لكنه سيكون منسّقاً إلى درجة ما، لأن التحركات بلا أفق لن توصل إلى أي مكان، والناس وصلوا إلى مراحل متقدّمة من اليأس ولن يبقى أمامهم إلاّ الثورة لأنه لم يعد لديهم شيء ليخسروه.
“الجوع كافر”، هذه العبارة تلخّص الواقع اللبناني، وعندما ينزل الجياع على الأرض لن يقف في دربهم لا سلطة فاسدة، ولا رجل أمن مهمته حماية النظام، عندها تسقط كل الخطوط الحمر ويصبح مطلب الشعب الحصول على الخبز والتحرّر من الظلم والفساد، وسيصل إليه إذا استمرّ في مطلبه لأن قدر الثورات الإنتصار.