Site icon IMLebanon

هل تنهض الانتفاضة من ركام الأخطاء..؟

 

عندما تمر بساحة رياض الصلح هذه الأيام، تختنق فيك الأنفاس، وتضيع منك الكلمات، وتشرد منك النظرات، وتُبحر فيك الذكريات والأفكار، وكأنك تقف على أطلال مجدٍ غابر باعدت بينك وبينه سنوات وسنوات!

 

تقف أمام الجدار الإسمنتي العازل لمكاتب الحكومة ومجلس النواب، فترى رسومًا وخطوطًا تُذكّرك بأيام الانتفاضة، وما أشعلته من آمال وحماس في القلوب والعقول، وما أثارته من عنفوان وحماس ألهب الساحات، وأطلق صرخات التغيير، ورفع شعارات إسقاط الطبقة الحاكمة: كلن يعني كلن.

 

أجواء الحزن والكآبة تلف هذه الساحة في قلب بيروت، والتي كانت في مثل هذه الأيام من العام الماضي تغلي بجموع الجماهير الهادرة بالغضب، تهز قواعد الطبقة السياسية الفاسدة، وتؤدي إلى إسقاط «حكومة العهد الأولى»، وتُشكل شرارة التظاهرات والاحتجاجات التي عمت كل المناطق، وخاصة تلك التي كانت تُعتبر إقطاعيات مقفلة على أحزاب وقوى سياسية معينة.

 

لماذا خبت شعلة الانتفاضة..؟

 

وكيف تلاشت الجموع الغفيرة التي كانت تتسابق للحضور إلى الساحات الملتهبة؟

 

بعيداً عن أساليب جلد الذات، لا بد من مراجعة صريحة ودقيقة للمسار الذي انتهجته الانتفاضة، والتوقف عند بعض العوامل التي أدت إلى إجهاض أكبر حركة شعبية وطنية بامتياز، عرفها لبنان في تاريخ مئويته الأولى.

 

في الأسابيع الأولى التي حققت فيها الانتفاضة إنجازها الأول والأهم، باستقالة حكومة الحريري، وبدء البحث بحكومة غير سياسية من الاختصاصيين، تجاوباً مع مطالب الجماهير الغاضبة، بدأ البحث عن برنامج سياسي وإصلاحي للانتفاضة، ولو في صيغة مرحلية محددة، تؤطر المطالبات والشعارات التي رُفعت في الساحات. ولكن ثمة أشهر طويلة مضت ولم يُبصر هذا البرنامج النور لألف سبب وسبب.

 

بموازاة الجهود التي بُذلت للتوصل إلى «البرنامج المرحلي»، جرت مساعٍ على أكثر من صعيد، لتشكيل قيادة موحدة ومؤقتة، تجسد كيان الانتفاضة، تستوعب الخصوصيات المناطقية، وتتولى تنسيق نشاطات الحراك، وتُعتبر مرجعية صالحة للتعبير عن مواقف الانتفاضة، وخطواتها السياسية والمطلبية في التطورات اليومية. وتجنب الوقوع في تجربة حركة ١٤ آذار التي أدّى إهمالها وضع برنامج سياسي موحد إلى تفككها، وتناحر أطرافها!

 

مع تعثر قيام القيادة الموحدة، وعدم التوصل إلى برنامج موحد، بدأ مسار الانتفاضة يأخذ منحى دراماتيكياً: تناسلت المجموعات والشلل الشبابية التي يدّعي كل منها بأنه الأكثر تمثيلاً، ولا يعترف بالآخر، تعددت الأهداف وتفاوتت التحركات، وكثرت الاختراقات من هنا وهناك، خاصة من قبل أجهزة السلطة، وبدأ المسار السلمي والحضاري للانتفاضة، والذي أثار إعجاب وتقدير العالم كله، ينحرف عن خطه السلمي، وينزلق إلى أعمال الشغب والمواجهات العنفية، بهدف شيطنة الحراك من قبل أطراف السلطة، وتشويه صورة الحركة الديموقراطية الواسعة التي حاصرت المنظومة السياسية في دوائر فسادها وفشلها، وأربكت أهل الحكم الذين اعترفوا بشرعية الغضب الشعبي على الأوضاع المتردية في البلد، والتي نخرها الفساد حتى الإفلاس.

 

مع انكفاء التحرك الشعبي الهادر في الساحات والمناطق، برزت محاولات بيروقراطية، بعضها خجول، والبعض الآخر مُلتبس، لتجميع ما تيسر من شلل ومجموعات تحت مظلة تنسيق الجهود، دون توحيد الأهداف«!» واكتفى معظمها بإصدار البيانات الإعلامية بين الحين والآخر، في حين عمدت بعض تكتلات رجال الأعمال إلى تنظيم حملات دعائية لشعارات براقة، دون تحقيق أية خطوات على أرض الواقع.

 

وفي مقارنة سريعة بين الأوضاع التى كانت سائدة في البلد عشية اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين من العام الماضي، والتي كانت شرارتها «قروش» الواتس أب، وبين سلسلة الانهيارات التي توالت على البلاد والعباد، ونشرت البطالة والمجاعة والفقر بين الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وبلغت ذروتها بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت، ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح: أين الجماهير التي خرجت من أجل «سنتات» الخليوي، وهي اختفت أمام تداعيات العجز والفشل والإفلاس، والخسائر بالمليارات التي لحقت بالدولة والناس بعد انهيار الليرة وحجز أموال المودعين في المصارف، واضطرار بعض المواطنين إلى رمي أولادهم في البحر، والمخاطرة بحياتهم على قوارب الموت، سعياً وراء لقمة العيش؟

 

ورغم كل ذلك…

 

إن جذوة الثورة والغضب لم تنطفئ في أعماق كل لبناني يحلم بالتغيير والتخلص من هذا النظام الطائفي البغيض، ومن هذه المنظومة السياسية الفاسدة والفاشلة، والولوج إلى دولة المواطنة الحقيقية، دولة العدالة والمساواة والكفاءات، وطيّ صفحة الزبائنية والمحسوبية، وتسلط أمراء الطوائف على مقدرات البلد وثرواته البشرية والطبيعية.

 

فهل تنهض الانتفاضة في عامها الثاني من ركام أخطاء العام الأول؟