Site icon IMLebanon

الثورة أنجزت إدانة منظومة السلطة وحطّمتها… وما تبقّى إطلاق آليات بديلتها

 

منذ سنة تماماً في “17 تشرين الأول” عام 2019، خرج الشعب اللبناني الى الشوارع والساحات، في واحدة من أرقى الثورات في تاريخ لبنان والمنطقة، وفي أسمى انتفاضة، هي ثورة قيمية في سلميتها، وفي تحرّرها من التبعية، ثورة أخلاقية بعدالتها ومساءلتها ومحاسبتها للمرتكبين والفاسدين.

 

لقد أعلن جيل الإنتفاضة زمناً جديداً، لا مكان فيه للفساد والعنف. فلا الطائفة وحقوقها ولا الحزب المسلّح، ولا القضايا التي يخرجونها من جوارير الحرب الأهلية، ولا شيطنة الآخر المختلف، ولا العنف العاري ميليشياوياً كان أم رسمياً، لا شيء من كلّ ذلك استطاع أن يهزم منطق الثورة ويُطفئ غضبها، الأمور هذه فقدت صلاحيتها، فهي من زمن آخر مضى…

 

الإنتفاضة أرست ثقافة جديدة، فبعدما كانت القيم السائدة ترتكز على الولاء للمرجعية والإنتماء الطائفي والزبائنية السياسية، ومقايضة الولاء للزعيم بالخدمات الأساسية للمواطن من فرص عمل وتعليم وطبابة، جاءت الثورة لتصنّفها حقوقاً مواطنية بديهية، ولتضع قيماً جديدة تنبذ الطائفية، وتعلي قيم المواطنة بإتجاه بناء دولة مدنية حديثة، دولة قانون ومؤسسات، دولة سيّدة على حدودها وداخل حدودها، تكرّس سيادة القانون كلّ قانون، فأدانت الفساد كجريمة، وطالبت باستعادة الاموال المنهوبة، معلنةً الخروج من عباءة الزعيم، كما أدانت العنف والتزمت بالثورة السلمية والدستورية. القيم هذه، باتت راسخة في وعي الناس وتستمر حيّة في وجدانهم، وتلك ثورة بحدّ ذاتها.

 

لقد فضحت الإنتفاضة تحالف السلطة المتمثّل بمنظومة الفشل والفساد والإرتهان للخارج، ووضعته في موضع الإتهام ثم الإدانة داخلياً وخارجياً. وانطلق الناس يتّهمون السلطة وأهلها بمسؤولياتهم عن الكارثة المالية والإقتصادية، وعن تعميم الفساد وتحويله نمط عيش. وبات أطراف السلطة أنفسهم يتقاذفون التهم في ما بينهم، معترفين بجرائمهم، فيما سعى كلّ منهم للتملّص من مسؤوليته بتبرئة نفسه مُنفرداً.

 

تحديات يواجهها الثوار

 

 

ونجحت الثورة، من خلال فعالياتها ومبادراتها، في تسليط الضوء على مكامن الفساد في الدولة كالكهرباء والإتصالات والطاقة والضمان الإجتماعي ومساعدات الدول المانحة والمرفأ والمصارف والمعابر الشرعية منها وغير الشرعية الخ… وتجرّأت فعاليات الإنتفاضة التي كانت تنتقل من موقع إلى آخر، بأن تسمّي الفاسدين بالإسم، مُسقطة المحرّمات والرموز السياسية، بعدما علّقت مشانقهم في الساحات، فاحتلّت الفضاء الاعلامي، فيما بات أصحاب السلطة في موقع الدفاع والإدانة أو المطاردة، ولم يعد بإمكانهم التجوال بحرية ومواجهة الناس والمشاركة في الحياة العامة. وبعدما كانت الحياة السياسية تدور حولهم، بات الفضاء العام موجّهاً حول حقوق المواطن الأساسية، التي شكّلت محور الحياة السياسية، فيما كانت إلانجازات المزعومة لكلّ زعيم هي المحور؛ في هذا المخاض السياسي الجديد أصبح الناس هم الذين يصنعون السياسة بعدما كانت أحزاب السلطة هي التي تصنع الناس.

 

كما استطاعت الثورة أن تدفع الى مقدّمة صفوفها الأمامية أجيالاً من النساء والشباب وقطاعات واسعة من الناس، لم تكن السياسة في أولوياتهم، فانخرطوا في العمل السياسي وباتوا في مقدّمة صفوف الثورة.

 

لقد أعادت الإنتفاضة اكتشافنا لمساحات اللقاء وامكانيات العيش المشترك، وطوت صفحات استدعاء الحرب الأهلية، فأسقطت حصرية ونمطية المناطق؛ فكم بدا اسم الله جميلاً وهو يتوسّط ساحة النور في طرابلس التي تجلّت عروساً للثورة تُزفّ لكلّ لبنان، وكم تبدّت النبطية وصور وكفررمان، زاهية الألوان وهي خارجة لتوٌها من رماد الكآبة، وكم تألّق ليل بعلبك دافئاً وآمناً، وكم تعملقت بيروت أمّاً تحتضن كلّ لبنان في ساحة شهدائها، وكم أزهرت عجقة أعراس الطريق الساحلي في المتن وكسروان، فغَدونا نحبّ لبنان كما لم نحبّه من قبل! في ظلّ العلم اللبناني الذي أحرج الرايات الفئوية وأخرجها من الساحات.

 

خلال سنة كاملة من عمر الإنتفاضة، فقدت السلطة خلالها شرعيتها أمام شعبها، ومصداقيتها أمام دول العالم بعدما أوصلت البلاد الى الإنهيار والإفلاس، كما خسرت وحدة وانسجام أطرافها، وتضاءل ولاءُ قواعدِ أحزابها، وباتت معزولةً في الداخل والخارج.

 

وبدل أن تتحمّل مسؤولية فشلها وفسادها لتخضع لآليات محاسبة ومساءلة سياسية ومالية وقانونية وادارية، ولتسعى لإجراءات تخفّف بها النتائج الكارثية للإنهيار المالي والإقتصادي، اختارت قوى المنظومة السياسية انتهاج سلوك العصابة، فتبنّت خيار الإستثمار بالكارثة والاستقواء على الشعب بتداعياتها، مُمعِنة في تهديد الناس في أرزاقهم وأموالهم وصحّتهم وتعليم أبنائهم وأمنهم وقوت يومهم، فتابعت الإستيلاء على ما تبقّى من ودائع مالية في مصرف لبنان، عبر تهريب المواد المدعومة أسعارها، وعبر إنتقائية مافياوية فجّة في التعامل مع عمليات تحويل الأموال الى خارج البلاد، كما اعتبرت جريمة المرفأ فرصة لفكّ عزلتها ومناسبة للتسوّل باسم ضحايا الجريمة، وذهبت لمفاوضة العدو الإسرائيلي برعاية أميركية، مُسقطة دفعة واحدة كّل مقولات الممانعة وأخواتها، ومُعتبرة أنّ الجلوس مع العدو هو قارب نجاة قد ينقذها، فيما جعلت من وباء “كورونا” ذريعة تتمترس من خلفها إزاء كلّ تحرّك جماهيري، وجديدها اليوم محاولة بائسة لإعادة تعويم المنظومة عينها، باستغلال المبادرة الفرنسية وحرفِها عن مقاصدها التي تهدف لمساعدة شعب لبنان، وليس لإنقاذ منظومة الفساد فيه..

 

وتترافق محاولة التعويم هذه مع انطلاق حملة أسئلة متحاذقة، يطرحها اعلاميو المنظومة الفاسدة ومناصروها بخفر، تردّد مقولة الإستنتاج بفشل الثورة بسبب غياب وحدتها، وكأنّ اطراف السلطة التي تحكمنا، يسطّرون أبهى تجلّيات وحدتهم وانسجامهم، ولعلّنا كنّا نصدّق سحر الوحدة ونسك الداعين اليها، لولا اجبارنا المأسوي على متابعة التناوب المسرحي لكلّ أطراف المنظومة على أداء متكرّر ومستمرّ لدَورَي دب وقرد، يتنازعان كلّ شيء في لعبة هزل كارثية.

 

فيما ينبري آخرون أشدّ وقاحة وكذباً في تحميل الإنتفاضة مسؤولية الكارثة التي صنعتها هذه السلطة، ولم تكن الإنتفاضة سوى ردّ شعبي بديهي على موجات النهب المتتالية التي تناوبت عليها أحزاب المنظومة، وأدّت الى إفقار البلاد ونهب مواردها وأملاكها العامة ومدخرات وأجور مواطنيها.

 

عوامل أعاقت التغيير

 

التغيير في لبنان ليس أمراً سهلاً، لذلك لم تنجز الإنتفاضة ترحيل هذه السلطة وإقامة سلطتها البديلة، بالرغم من إسقاط حكومتين متتاليتين واستقالة عدد من نواب الندوة البرلمانية، ولقد أثبتت الاحداث أنّ هذه المنظومة ستظلّ تقاتل حتى آخر رمق، فما هي العوامل التي أخّرت وأعاقت التغيير المطلوب، ومنعت تحقيق هدف الثورة بترحيل السلطة وإقامة سلطة بديلة عنها!؟

 

بالعودة الى تجارب الثورات وحركات التغيير يمكننا أن نجد الوسائل التالية التي أدّت الى نجاح الثورات في ترحيل حكّامها وتغييرهم؛

 

1ـ استجابة أطراف السلطة الحاكمة لضغط الشعب والرأي العام والإستقالة، وفتح آليات إعادة تكوين السلطة كالإنتخابات المبكرة، لم يحدث ذلك في لبنان لأنّ اصحاب السلطة لم يتصرّفوا كرجال دولة؛ استقال سعد الحريري، ابتعد سمير جعجع وسلّم وليد جنبلاط بعدم وجوده بوزارة حسّان دياب، لكنّ عون وبري و”حزب الله” تمسّكوا بعدم التراجع قيد أُنملةٍ، فكانت حكومة حسّان دياب التي فشلت ووسّعت مفاعيل الكارثة وعمّقت جروحاتها. وبعد جريمة المرفأ كان المنطق أن تحدث الإستقالة الثانية تتبعها انتخابات مبكرة، لكنّ العكس حصل وتصرّفت أحزاب الأكثرية النيابية كرجال عصابة بعد جريمة المرفأ، مُعتبرة تدمير نصف بيروت، فرصةً لفكّ عزلتها العربية والدولية.

 

ثورة مرتكزة على الوعي

 

2ـ الوسيلة الثانية هي الجيش والقوات المسلّحة التي كان يمكن أن تتّخذ موقفاً مشابهاً لما اتّخذته جيوش تونس والسودان وهذا لم يحصل، بل في كثير من الأحيان شكّلت القوات المسلّحة أداة بيد السلطة. ولم تكتف بممارسة القمع، بل سمحت لعنف الميليشيات أن ينال من عيون وأجساد المتظاهرين وخيمهم.

 

3ـ الوسيلة الثالثة القضاء عبر حملة لمحاربة الفساد على شاكلة الأيادي البيض في ايطاليا تضع رموز السلطة في أقفاص العدالة، لم يحدث ذلك بل على العكس، تمّ إجهاض التشكيلات القضائية، التي كانت أول خطوة في مسيرة استقلالية القضاء، كما تمّ شلّ أي دور لنقابة المحامين ونادي القضاة، واستباحت النيابات العامة حقوقاً يكفلها الدستور كحرّية الرأي والتعبير والتظاهر.

 

4ـ الوسيلة الرابعة هي قيام تجمّع نقابي يدعم الثورة كما حدث في تونس في مواجهة محاولات الإخوان المسلمين لخطف الثورة التونسية بعد رحيل زين العابدين بن علي، ولعلّه من الواضح في لبنان أنّ الإتّحاد العمّالي العام ونقاباته كإتّحاد النقل مثلاً من أوضح أدوات السلطة، وهي تتحرّك كواجهات تمارس الثورة المضادة.

 

5ـ الوسيلة الخامسة ضغط اقليمي ودولي لترحيل السلطة، وهذا ما لم تستطعه المبادرة الفرنسية، بعدما حاولت أطراف السلطة مواجهتها وحرفِها عن مقاصدها، ساعية الى أن تتجنّب المزيد من العقوبات الأميركية بالذهاب الى مفاوضات ترسيم الحدود مع اسرائيل وتخفيف الضغط الدولي بعرض صفقة، تتضمّن تحرير أسرى ورهائن وتحوز على موافقة ايرانية وسورية، حملها الجنرال عبّاس ابراهيم الى الـ C.I.A في واشنطن، وقد يكون عرض توسيعها الى سياسية مع باريس في طريق عودته.

 

6ـ الوسيلة السادسة ممارسة العنف الثوري عبر تنظيمات مؤهّلة لذلك، تشلّ عنف السلطة المضاد، وترفع عن الفعاليات الجماهيرية الحاشدة سيف التهديد والقمع وفقأ العيون وملاحقة الثوار، وهو خيار مشوب بخطر تحول الثورة الى حرب أهلية، تجعل من الثورة كارثة اضافية، وتصب الماء في طاحونة الميليشيات التي تجيد استعمال العنف الأهلي والإرتزاق من الإنقسامات المذهبية.

 

4 تحدّيات

 

وفي مواجهة سلطة الخداع والفشل والفساد والإرتهان الى الخارج، ستستمرّ الثورة عبر مواجهة تحدّيات أربعة:

 

* التحدّي الأول، هو التأسيس على استقالات النواب لخلق دينامية نيابية معارضة ومتصاعدة تهدف الى منازلة الأكثرية النيابية في شرعيتها القانونية، ومحاولة تفكيك هذه الأكثرية من أجل منع المنظومة من اعادة تثبيت سيطرتها وتعويم رموزها، ومن أجل جعل الإنتخابات النيابية في رأس جدول الأعمال الوطني.

 

* التحدّي الثاني، أن تنبثق من الثورة أدوات سياسية هدفها التغيير، وإقامة سلطة بديلة. فالمطلوب رحيل هذه المنظومة، والمعبر للسلطة البديلة هو الإنتخابات النيابية التي يجب أن تجري من دون تأجيل أو تسويف، وتجريها حكومة حيادية ليس فيها أي وزير من أحزاب السلطة، وتشرف عليها هيئة مستقلة وبمشاركة دولية فعالة وناشطة.

 

* التحدي الثالث، استقلالية القضاء الخاضع حالياً لرغبات ومصالح المنظومة السياسية والذي لم يتحوّل حتى الآن، إلى قضاء يطبّق القوانين فقط، فهذا القضاء لم يتصد لأي حالة فساد بالرغم من تعاظم حجم الأموال المهدورة والنهب المنظّم، ولم يحاسب أي مرتكب، بل على العكس قام باعتقال اكثر من ألف ناشط سياسي ليحاكمهم على آرائهم وتحرّكاتهم تجاه السلطة.

 

* التحدّي الرابع، هو علاقة الثورة بالجيش والأجهزة الأمنية، فهذه مؤسسات وطنية مهمّتها الدفاع عن الوطن وحماية النظام الديموقراطي وحقوق المواطنين وليس الدفاع عن أهل السلطة، ويبقى دور الجيش معوّلاً عليه في أكثر الأحيان، في مواجهة سلطة تدفع بقواته الى مواجهة أهله عبر قمع المتظاهرين، فيما تستعمل الميليشيات في الوقت نفسه العنف لمواجهتهم والهجوم على خيم المتظاهرين وإحراقها.

 

إنّ ثورتنا المرتكزة على الوعي الوطني العابر للمناطق والطوائف والتي تضمّ مختلف الشرائح الإجتماعية مطلوب منها من أجل لبنان، مواجهة تحدّيات نجاحها وانتصارها، وبلورة وإنتاج سلطة بديلة بكلّ مستوياتها عبر رؤية سياسية، وحلول مالية واقتصادية، واقتراحات قوانين حديثة إصلاحية، وعبر تقديم شخصيات عامة مشهود لها بالعلم والكفاءة والوطنية. إنّ مناسبة 17 تشرين 2020 ليست مناسبة للإحتفال فقط في مختلف الساحات، بل لتأكيد متابعة المسيرة وبناء دولة ووطن يليقان بمستقبل واعد.