طرفان يتصرفان على قاعدة أن ما بعد ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) ليس كما قبلها: الثورة و«حزب الله». كل ما عدا ذلك إما يقرأ في كتاب قديم وإما يلعب لعبة الانتظار.
لا شيء يدل على ذلك أكثر من رئيس الجمهورية الذي أجّل قبل أيام الاستشارات النيابية في اللحظة الأخيرة. كل ما يريده الرئيس أن يثبّت قواعد التعامل السياسي القديمة مع صهره جبران باسيل، وفحواها أن باسيل من صنف رئاسي. الرئيس الرابع غير المتوّج في حقبة الرئيس عون. ظن سعد الحريري أن الفرصة سانحة لتثبيت قواعد جديدة بعد أن كان أكثر المساهمين في تسمين جبران. هو رئيس الحكومة السابق، يتحاور مع نظيريه في رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. كتلته ورئيستها يتحدثون مع رؤساء الكتل، ومنهم جبران باسيل. جبران، الذي فهم رسالة الحريري، أوفد إبراهيم كنعان، أحد نوابه وأركان كتلته، إلى الحوار. وعون تكفل بالباقي، طالباً من الحريري التفاهم مع جبران. ثم توقفت الاستشارات.
الثورة التي اختارت أن يكون نشيدها إساءة مدوية لجبران، تعامل معها رئيس الجمهورية وصهره عشية سنويتها الأولى كأنها لم تكن. لا انهيار حصل، ولا انفجار تلاه… ولا بلاد تتبخر…
الرئيس الحريري نفسه، الذي اختار أن يخاطب اللبنانيين عشية سنوية الثورة الأولى، تحدث لأكثر من ثلاث ساعات وفي باله فكرة واحدة: العودة إلى ما قبل الثورة. العودة إلى ربط النزاع مع «حزب الله»، أي التسليم بأن ما يقوم به الحزب خارج لبنان وربما داخله لا يعني الحكومة اللبنانية. العودة إلى نغمة الحكومة – البلدية التي تعالج ملف الاقتصاد والخدمات العامة، مضافاً إليهما إعادة الإعمار، وتنهض على أموال مؤتمر «سيدر»، مضافاً إليه المبادرة الفرنسية. عودة معدّلة إلى ما قبل الثورة.
لم يقدم الحريري للرأي العام سبباً واحداً يقنعه بأن الشعاراتية التي استخدمها منذ التسوية الرئاسية عام 2016 ستعطي نتائج مختلفة اليوم. لم يوفر سبباً للاعتقاد أن مَن فشل في تنفيذ «رؤيته» منذ أربع سنوات سينجح فيها الآن… ألم تذهب البلاد لتجرع كأس السم بانتخاب مرشح «حزب الله» عام 2016، لأن الاقتصاد ما عاد يحتمل والليرة مهددة؟ ما حصل أن الاقتصاد انهار والليرة تحطمت وبقي عون رئيساً. يستخدم الحريري المقدمات نفسها: البلاد لا تحتمل. الاقتصاد لا يحتمل. مستقبل اللبنانيين لا يحتمل. لنضاعف جرعات السم إذاً. هاتوا كؤوسكم أملأها سماً زعافاً… إنها مجدداً مخيلة ما قبل الثورة.
وليد جنبلاط الذي تحدث بلسان الثورة قبل الثورة مراراً، وأوغل في انتقاد الطبقة السياسية منذ منتصف التسعينات، ونعى شرعيتها في أكثر من مناسبة، إنما فعل ذلك من موقعه «كمثقف يساري»، يستسيغ الديالكتيك. المهم هو وليد جنبلاط السياسي. في مطالعته الأخيرة التي خص بها قناة «الجديد»، قال السياسي جملة واحدة مفيدة مغطاة بطبقات سميكة من لغة المثقف النقدية التي تلبس لبوس الحرص على الناس ومصالح الناس ومستقبل اللبنانيين: «أريد وزارة الصحة في الحكومة المقبلة». البقية تفاصيل شكلية، أو تظهير للصراع المضني بين وليد المثقف ووليد السياسي في جملة سياسية واحدة.
طلب بشكل معقد وموارب ما كان ليطلبه بشكل أبسط ومباشر في 16 أكتوبر. تشكيل الحكومات فرصة محاصصة، وأريد حصتي، ولتكن حصة أفضل. أريد وزارة الصحة. كان الراحل كمال جنبلاط في لحظات مماثلة يذهب بسقف الكلام إلى حدود الطلب من لبنان التحالف مع «الصين الشعبية»… فيفهم القصر الرئاسي أنّ تحت هذا العنوان الاستراتيجي العظيم طلباً لـ«زعيم المختارة» يتعلق بمدير عام أو موظف أو ضابط… وغالباً ما يكون له ما يكون، فيما تمضي الصين الشعبية غافلة عن الخرق الذي حققته في إحدى قرى أو مدن لبنان!
كل نص الاعتراض السياسي الذي قدمه جنبلاط يتقطر إلى حدود جملة واحدة: في الحكومة المقبلة هذه حصتي، وبعدها لكل حادث حديث. سيكون لنا متسع من الوقت بعدها للنقاش في الثورة ومآلاتها وطموحات الشباب ومخارج الأزمة الاقتصادية وإعادة التوزيع العادل للدخل، وكسر الاحتكارات… وغيرها!
القوات اللبنانية اختارت الانتظار. هي الأقل استهدافاً من قوى الثورة، والأكثر أهلية لمراكمة رصيدها الشعبي ما بعد عون. استهدافها من الشبيبة غالباً ما يتم بغية التأكيد الثوري الراديكالي على أن «كلن يعني كلن»… أي لا استثناءات لأحد. على الرغم من انعدام صلة القوات بملفات الفساد إلا أن أخطاءها ليست قليلة، ومسؤوليتها عن وصول الجنرال عون إلى الرئاسة ليست بسيطة، لا سيما أن الاتفاق، انطوى على شبهة محاصصة مقيتة لم تنجح كل تبريرات القوات حتى الآن في تبديدها. مشكلة القوات أنها في اللحظة التي يمكن أن تكون فيها الحاضن لتجربة سياسية رصينة في الحكم، ما زالت عالقة في معارك ماضية. رجل في ماضي لبنان ومخلفات صراعاته وعُقده ورجل في مستقبله من خلال النجاح في تقديم نخبة سياسية رصينة وموثوقة وجدية.
مشكلة مشابهة يواجهها حزب الكتائب اللبنانية مع رئيسه الشاب سامي الجميل. لا تكمن المشكلة في نزاهته الشخصية والسياسية الأكيدة، ولا في نموذج القيادة الحديث الذي يقدمه، ما يجعله بين السياسيين صاحب أكثر صلة أصيلة بالثورة وقواعدها ومنهجها ووعودها. لكنه وريث في لحظة انتفاض كامل على كل ما هو موروث، وفي هذا ظلم فادح لتجربته.
وحدهما الثورة و«حزب الله» يتصرفان على قاعدة أن ما بعد 17 أكتوبر 2019، ليس كما قبله. الثورة ماضية في هدم قواعد التعايش مع النخبة السياسية الحاكمة بإصرار غير مسبوق. ماضية في هدم قواعد الحكم القديمة، وآليات إنتاج السلطة، أو على نحو أدق آليات تجديد التحالف بين المافيا والميليشيا، حسب العبارة البديعة للدكتور صالح المشنوق. ما حققوه من «شرشحة» السياسيين على مرأى ومسمع العالم والسفراء وقادة الدول، لا مُصلح له. وهم لن يتوقفوا. مسلسل المهانة لن يشهد حلقته الأخيرة، والإذلال العلني لجل رموز الطبقة السياسية لن يتوقف. استراتيجية «ضرورة العار» كما قدمتها جنيفر جاكيت، الأستاذة المساعدة للدراسات البيئية بجامعة نيويورك، بهدف تغيير السلوك السياسي العام للأفراد والحكومات والشركات.
أما «حزب الله» ففهم بدوره أن لبنان «غرفة العمليات» المدجنة، والمعتنى بها والتي عمل فيها منذ مطلع التسعينات وحتى الثورة، انتهت إلى غير رجعة، وأن مستوى الاتهام له بالمسؤولية عما أصاب اللبنانيين، أعلى بكثير من مواجهته بتصرفات حسن نصر الله ولغو المقاومة.
قبول «حزب الله» بالتفاوض البحري مع إسرائيل لترسيم الحدود مع «دولة إسرائيل» هو الورقة الجديدة التي يلعبها الحزب بهدوء وتمهل. ربما ما كان مضطراً لها، أقله بهذا الشكل التطبيعي الفاضح، لولا تزاوج الانهيار والثورة… لكنه بين كل الأحزاب، الوحيد الذي يملك بضاعة للبيع، ومربعات خالية على رقعة اللعب للقيام بنقلات جديدة.
الثورة فهمت أن لبنان ما قبل الثورة انتهى. و«حزب الله» كذلك. أغلب البقية «نيام… فإذا ماتوا انتبهوا»، على ما يُنسب قوله للإمام علي بن أبي طالب.