IMLebanon

في نقد الثورة (4)

 

الثورة شخّصت وكتبت وصفة العلاج. الناشطون على الأرض خاضوا المعركة ضدّ الفساد، من غير أن يغوصوا في فقه المعاني وفي الفروقات بين المصطلحات: طائفية، محاصصة، علمانية، مدنية، ديموقراطية، انتخابات، دولة مركزية، دويلات، لامركزية، فدرالية وكونفدرالية وغيرها من المفاهيم. المثقّفون شغلتهم هذه الكلمات، وأدخلتهم في التفاصيل عن قوانين الإنتخاب وقوانين الأحوال الشخصية وإلغاء الطائفية.

 

غير أنّ أهل السلطة عملوا على فكّ حصار الثورة المُحكم عليهم بشحن هذه المصطلحات بمعان ملتبسة. هم أيضاً من أنصار الدولة، الدولة المدنية والعلمانية. حتّى الأحزاب الدينية والمفتي الجعفري لن يقبلوا بغير دولة مدنية، لكنّهم يعارضون سنّ قانون موحّد للأحوال الشخصية. الكلّ مع إلغاء الطائفية، لكن الأحزاب المسيحية لا ترضى إلا بالعلمنة الكاملة.

 

انتخابات مبكرة وقانون عصري للإنتخابات لإعادة تكوين السلطة. لكن، كيف يكون القانون عصرياً؟ بتصغير سنّ الإنتخاب أم بلبنان دائرة انتخابية واحدة، أم بتعديل حجم الدوائر، أم بتصويت المقترع لمرشّح واحد؟ وهكذا تكون السلطة قد زجّت الثورة في متاهات حوار وُلد عقيماً منذ رأى اليسار أنّ إلغاء الطائفية هو المدخل إلى الحلّ، وردّ اليمين بسؤال البيضة أم الدجاجة، النفوس أم النصوص.

 

الثورة ألغت كلّ أنواع الإلتباسات في الشوارع والساحات. تجاوز الثوّار أسئلة الماضي العقيمة، والتقوا في الساحات والشوارع، وجمعوا أطراف الوطن ولم يعيروا انتباهاً لتنوّع الإنتماءات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية والحزبية. نجحوا لأنّهم أجابوا على أسئلة أخرى غير تلك التي طرحها جيل الحرب الأهلية. لم يكن الخطأ في الأجوبة القديمة وحدها، بل في الأسئلة أيضاً.

 

أين هي الطائفية التي سنلغيها؟ من المستفيد من تنصيب شيعي في وزارة المالية؟ الطائفة أم تجّار الطائفية فيها؟ ومن المستفيد من وزارة الطاقة؟ المسيحيون أم أحد الأحزاب المسيحية أم لصوص المال العام في الحزب الحاكم؟ إنّهم يبحثون عن حصص، ويزعمون أنها حصص الطوائف، لكنّها حصص أشخاص معدودين داخل كل طائفة، جعلوا الدولة ملكيات خاصة للزعيم وزوجة الزعيم والورثة، فتحاصصوا الإدارة والثروة والنفط، واختلفوا على جلد الدبّ قبل أن يأسروه.

 

أهمّ حكومة في تاريخ لبنان تشكّلت أيام فؤاد شهاب من رشيد كرامي وحسين العويني من السنّة وبيار الجميل وريمون إدة المارونيين. أربعة وزراء فقط، لا عشرين ولا أربعة وعشرين. لم تتردّد يومذاك مصطلحات الميثاقية والدستورية والشرعية التي ينطق بها اليوم من يجهلون معانيها، لأنّهم لم يتعلّموا في مدرسة ميشال شيحا ورياض الصلح وبشارة الخوري وفؤاد شهاب كيف يُبنى الوطن والدولة، بل تدرّبوا في الأجهزة والعسس والمافيات الميليشيوية على السطو والبلطجة وانتهاك الدستور.

 

“الأحوال الشخصية” أصعب من الطائفية، وراء كل منهما تاجر أو مقاول. وهي أصعب لأنّها “شخصية”، أي مرتبطة بالخيارات الفردية وبحقّ الإنسان بالحرية. هناك بلدان يبني القضاء أحكامه فيها على الأعراف والتقاليد. وما همّ إن تعدّدت القوانين، المهمّ ألا تتعدّد السلطات. ما ينبغي إلغاؤه هو السلطات الموازية القضائية والمالية لدى الطوائف، وإخضاع المحاكم الشرعية لسلطة القضاء المدني الذي يحكم باسم الشعب اللبناني، على أن تُحمى حرية النطق باسم الله وباسم الآب والإبن كحقّ فردي من حقوق الإنسان.

 

ليست الأجوبة القديمة وحدها المغلوطة. إعادة صوغ السؤال عن مواصفات الدولة المنشودة. والجواب: الدولة الدستورية، دولة القانون والمؤسسات.