مئة وعشرون مقالة في “نداء الوطن” كلّها عن الثورة. قصّرت في مديحها لأنّني منها ولأنّ مادح نفسه يقرؤك السلام. ولأنّني منها، فإنّ الكثير الذي كتبته في نقدها هو نقد ذاتي، أو هو صيغة اخترتها للحوار مع مناضلين في صفوفها، بعضهم من أبناء جيلي المتحدّرين من تجربة الحرب الأهلية، ومعظمهم جيل جديد من شباب لبنان وشاباته من طلّاب الجامعات. غير أنّ أهل الثورة المنتظمين في أكثر من مئة وخمسين هيئة استبعدوا البحث في توحيد الرؤية، وحصروا الحوار في الشأن التنظيمي وتوحيد الأطر، مع أنّ هذا مستحيل من دون ذاك.
في مقالاتي كنت أكرّر وجهة نظري، وخلاصتها أنّ حركة 17 تشرين هي ثورة لا انتفاضة، لأنها تنشد إحداث تغيير على صعيد البنية السياسية ولا تكتفي برفع شعارات مطلبية معيشية، ولا هي انتهت بعد إسقاط حكومة وحكومتين، وأنّها ثورة تحت سقف الدستور لا تبغي تغيير النظام، بل تطبيق القانون والالتزام بأحكام الدستور، وأنّ خريطة الطريق إلى ذلك تتمثّل بتعزيز سلطة القانون من خلال قضاء مستقّل، وتمكين الشعب اللبناني من إعادة تشكيل السلطة بعد انتخابات نيابية على أساس قانون جديد. كل ما عدا ذلك، كالفساد والمال المنهـــوب والتهريب والتهرّب الضريبي والنفايات والكهرباء والنفط وانهيار الليرة، ليس سوى مادة لممارسة الضغط على السلطة لمنعها من الإمعان في انتهاك الدستور وفي ارتكاب المزيد من المفاسد، ولإرغامها على وضع النظام على سكّة الإصلاحات السياسية المطلوبة.
وجهة نظري هذه ليست شيئاً آخر غير مبادئ الثورة التي لا يقلّ الانحراف عنها خطراً عن خطر انتهاك السلطة للدستور. التعامل معها كانتفاضة أو كحركة مطلبية واحد من هذه المخاطر. استعنت على الرفاق بعبارة بليغة للصديق عدنان الأمين قال فيها، “الوجع اقتصادي والمرض سياسي”، وبأخرى للصديق كريم جابر بليغة كأصلها القرآني: “وفي النظامِ مواقعُ هنّ أمّ الفساد والبلاء، وأُخَرُ متشابهات، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ، فيصوّبون على المتشابه، يبتغون الفتنة”، ثم كرّرنا القول بأنّ الثورة الناجحة لا تبحث عن استعادة المال المنهوب قبل اعتقال اللصوص، لأنّ اللصّ الطليق قد يسطو عليه مرّة أخرى، وأعدنا تكرارها في عشرات المقالات التي شدّدت على أنّ السلطة السياسية هي المسؤولة، وأنّ على الثورة ألا تدعهم يهربون من المحاسبة. لأنّه “كلّما فاحت رائحة فساد في الدولة يسارع رجل السلطة إلى إبعاد الشبهة عنه، إمّا بالتصويب على خصمه السياسي، وإمّا باللجوء إلى نظرية المؤامرة، وإمّا بحصر التهمة بالأجهزة الإدارية أو بالمسؤولين عن الشأن المالي والمصرفي”. ولأنّ الهجمة على المصارف يقودها فريق أول، هو المسبّب لكل الأوجاع، وهو المسؤول الحقيقي عن الفساد ونهب المال العام وانتهاك الدستور وتدمير الدولة، وهو يفعل ذلك لحرف الأنظار عن المرتكب الحقيقي. يساعده، من غير أن يدري، فريق ثان من داخل الثورة هو من يمكن أن يتحوّل ثورة مضادة.
مع ذلك، استمرّ “العصب اليساري في الثورة يصوّب على”حيتان المال” والطغمة المالية، ورأس المال المتوحّش، وعلى وسط المدينة وسوليدير فيدفع البورجوازية إلى الارتماء في حضن سلطة لا تمثّل مصالح البورجوازية ولا مصالح الطبقات الشعبية، فيما يتطلّب الوضع اللبناني أن تكون المصارف وما تمثّل على رأس الثورة للإطاحة بنظام المافيا الميليشيوي. لكنّ الاقتصاديين كالسياسيين لا يسمعون”. وإذا كانت السلطة السياسية هي المسؤولة عن نهب المال العام بالتواطؤ مع المصارف أو من دونه، فإنّ من يحلو له تحميل المسؤولية للمصارف أو للمصرف المركزي أو للفساد الإداري، وهذه كلّها ينبغي أن تخضع للمحاسبة أمام القضاء، فهو يعمل عن قصد أو عن غير قصد على تبرئة اللصّ الحقيقي المسؤول ليس فقط عن نهب المال العام، بل عن تدمير الدولة وانتهاك استقلالية القضاء.
نعم، المصارف مسؤولة عن نهب آخر يشرّعه لها البرلمان، يسمى باللغة الماركسية النهب الرأسمالي، لكنّ ثورتنا اللبنانية لا تبغي تأميم المصارف ولا استبدالها بالقرض الحسن، فهي ليست ثورة ماركس ولا أبي ذر الغفاري، بل هي الثورة الديموقراطية التي تضع في رأس مهمّاتها تنظيم القطاع المصرفي ليكون هو الآخر خاضعاً لسلطة القانون لا لسلطة المافيا الميليشيوية، وحمايته ممّن يضمرون شرّاً به وبحقوق المودعين وبحقوق الإنسان، وممّن يتوهّمون أنّ تحطيم واجهات المصارف هو السبيل إلى حلّ الأزمة.
زادني اقتناعاً بأولية الجانب السياسي في مثل أزمتنا الوطنية، وخلافاً للتعاليم السوفياتية عن أولية العامل الاقتصادي، كتاب لوزير المالية اليوناني الذي أشرف على إنقاذ بلاده من أزمة مماثلة قال فيه “إنّ من يُدعَوْن خبراء في جامعاتنا العظيمة وعلى شاشات تلفزيوناتنا وفي المصارف ووزارات المالية ليست لديهم أدنى فكرة عن الموضوع. أما المعلّقون الاقتصاديون من الدرجة الثانية، فلم يقتصر الأمر على أنّهم لم يفهموا نماذج الاقتصاديين العظماء، بل يبدو أنّهم لم يبالوا على نحو ملحوظ بأنّهم لم يفهموها. كلّما استمعت أكثر لهؤلاء الخبراء الاقتصاديين وهم يتحدّثون عن الاقتصاد، أراهم يزدادون شبهاً بحكماء وعرّافي حقبة ما قبل الحداثة الذين كانوا ينجحون في تثبيت سلطتهم الثقافية وسلطة الحاكم السياسية، مع أنّ نبوءاتهم لم تكن صحيحة “بالمرّة”. قلت فكيف بما بعد الخبراء والمعلّقين من الدرجة الثانية؟
بات واضحاً لأيّ مراقب سياسي بأن رصيد البنك المركزي من العملة الصعبة أخذ يتآكل، منذ بداية 2018، بسبب تهريب العملة الصعبة والمواد المدعومة، أي مشتقّات النفط والمواد الغذائية والأدوية، وصولاً إلى بيعها في الأسواق المصرية والسورية والعراقية والتركية والكويتية، ما جعل من المؤكّد أنّ الحملات على حاكم البنك المركزي تنظّمها أوركسترا المافيا المالية الميليشيوية لإبعاد الشبهة عنها، وأنّ من يشرف على تنظيمها يهدف إلى إطلاق رصاصة الرحمة على الكيان اللبناني ودفعه نحو الانهيار.
لقد أشرت في مقالاتي إلى ما كنت أعتقده خروجاً على مبادئ الثورة، ونبّهت إلى خطر التصويب الخاطئ، وحذّرت من محاولات جرّ الثورة إلى ما يريده أعداؤها، خصوصاً بعد استهداف مقرات المصارف ومبانيها وواجهاتها وآلات سحب العملة فيها ومبنى المصرف المركزي بأعمال عنف كانت تدفع إليها جهات مندسّة، وتنجرّ إليها جهات محسوبة على الثورة، وكنت أحسب أنّ مقالاتي هي بمثابة مساهمة لي في اجتماعات الهيئات التي تربطني بمعظم أعضائها علاقات ودّ ونضال مشترك لأكثر من عقدين أو ثلاثة من الزمن، ومن بينها “تحالف وطني”.
بعد التلميح جاء التصريح بقولنا، إذا كانت الثورة دفاعاً عن الدستور فهي لا تستهدف المصارف بل منتهكي الدستور ممّن يشرّعون للنهب عبر المصارف وسواها. قضية الثورة هي قضية الدفاع عن الدستور، أما مسؤولية المصارف والاقتصاص منها على أخطائها فهي أمر من اختصاص القضاء المستقلّ لا من صلاحيات الثورة. بعد التلميح ثم التصريح، استمرّ بعض رفاق الثورة “يتسلى” خلال وقت “كورونا” الضائع، بمعارك جانبية والتسديد خارج المرمى، حتّى بعد أن تحدّد المرمى “بقائمتين من الشيعية السياسية وعارضة من “التيار الوطني”.
كنت أمنّي النفس بأن تكون مقالتي (مقالاتي) بمثابة مداخلة لي في الاجتماعات الداخلية لمكوّنات الثورة من مؤسسات المجتمع المدني، على الأقل تلك التي شاركت في صوغ بياناتها التأسيسية، ليرميني الأصدقاء في تحالف وطني بتوجيه الشكر لي على اهتمامي بأدبياتهم، وترحيبهم بأيّ نقد “يساعد على تصويب المسار ويخدم قضية الثورة في بناء دولة القانون والمؤسسات”.
النضـــال “في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة”، أيها الرفاق، خاضه من سبح ضدّ التيار في مواجهة كل القوى السياسية اللبنانية التي استمرّت مشغولة، منذ تسعينات القرن الماضي، بقضايا “التحرر الوطني” من الاحتلال الإسرائيلي أو من الوصاية السورية. لا يهمّنا الآن البحث في ملكية فضل السبق. المهم أنّنا اليوم ننهل كلّنا من أدبيات الثورة، نغتني بها ونغنيها، فيسهم كل منّا “بحسب طاقته ويأخذ بحسب حاجته”. إذا كان ينطبق على بعضنا قول الشاعر، فليسعد النطق إن لم تسعد الحال، فإنّ إسهامنا في الثورة هو أفكار لا تطالب بشكر على واجب، بل تنتظر من الأصدقاء وضعها على طاولة النقاش، ومن سواهم أن يتعاملوا معها كنصائح.
يهمّنا أخيراً أن ندقّق بمعلومتين اثنتين. الأولى، هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل لا لجنة الاستشارات في مجلس القضاء الأعلى، هي جزء من الأجهزة الإدارية في الدولة التي سطا عليها تحالف المافيا الميليشيوية، وإذا كان على الثورة أن تستقوي بجهة قضائية، فما يصدر عن نادي القضاة هو الأقرب إلى أدبيات الثورة. الثانية، الحاكم قدّم كشفاً بحسابات المصرف المركزي، لكنّه امتنع عن تقديم الوثائق الخاصة بالوزارات والمصالح والمجالس التابعة لها، وطلب من الحكومة، إمّا أن تقدّم هي الكشف عن حساباتها وإما أن تطلب منه بقرار خطّي تسليم تلك الوثائق، ولهذا ذهبوا إلى المجلس النيابي و”قرّروا بدل أن يشرّعوا”.