Site icon IMLebanon

أين وقود الثورة؟

 

 

0أين غاب الثوار حين ابتدأ اللعب الحلو؟ لا نقول اللعب الحلو استخفافاً بالوجع الذي تتسبّب به الأزمة لكثيرين، لكنّ المنظومة السياسية والاقتصادية في البلد تتخبّط في إفلاسها، وهناك فرصة متاحة، لم تُتح من قبل، لكسر احتكارها لملعب السياسة والاقتصاد. ثوار 19 تشرين (الكارهون لثوار أول يومين أي لثوار 17 تشرين) ارتضوا مقاعد الاحتياط، بعد أن استنتجوا أن الشعب لا يستحق تضحياتهم، عسى أن يعي هذا الشعب بحلول الانتخابات المقبلة أنهم البديل الثوري للمنظومة. إلى ذلك الحين، لا سبيل لهم إلا النّق، وما أكثر فرص النقّ هذه الأيّام لمن لديه ترف ذلك «الفعل الثوري» الذي لطالما كان مجدياً في قلب الأنظمة كما تشهد الثورات كافّة في تاريخنا.

 

عنوان النقّ الأبرز في الأيام الفائتة كان أزمة المحروقات وطوابير محطاتها. اصطفّ الثوار والمواطنون في انتظار حصّتهم من البنزين المقنّن، حاله حال الكهرباء التي بدورها تحتاج إلى وقود لإنتاجها، والمياه التي تحتاج إلى الكهرباء لتكريرها وضخّها، في ظل التهديد بقطع وسائل الاتصالات التي – كالمواصلات – تحتاج إلى وقود. والسبب المنسوب إلى هذه الأزمة هو عدم فتح الاعتمادات المصرفية بالعملة الصعبة، والتي تصعب أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، من قبل المصرف المركزي لاستيراد هذه المشتقات النفطية التي لا يملكها لبنان. ما يملكه لبنان هو عملة وطنية يمكنه طبعها، وكلما طُبعت قلّت قيمتها، لأن لا أحد يريد أو يثق بعملة تحمل توقيع حاكم مصرف لبنان في هذه الأيام. الحاكم نفسه يتحكّم باحتياط العملة الصعبة، ويقود عملية هندسة ترشيد إنفاقه، إذ يمنّ بحفنة مما تبقّى منه على قطاع تجّار حيناً ومودعٍ كبير أحياناً. ومصطلح تجار، كمصطلح مصرفيين، في لبنان يُستخدم زوراً لوصف مجموعة من المحتكرين والمرابين الذين لا يجيدون لا التجارة ولا الصيرفة. أكبر دليل على ذلك هو إفلاسهم رغم سيطرتهم على قطاعات السوق والقوانين التي تضبط عملها ورعايتهم من حراس الهيكل. فعتاة الرأسمالية في لبنان ليسوا قادرين على الاستمرار في سوق حرة أو في ظل قوانين دولة ليست في جيبتهم. لا بل أطلّ عتوٌّ وقحٌ منهم قبل أيام على برنامج تلفزيوني تطبيلي للمنظومة، ليطالب بتسليمه الدولة وشركاتها كحلٍّ للأزمة. يسجّل لمروان خير الدين أنه لا يخاف من إجهار موقفه على الشاشات، على عكس شركائه في الكارتيلات المهيمنة على الاقتصاد اللبناني الذين يريدون السترة، خاصة في مرحلة يُذلّ ويُجوّع فيها الشعب. فما كنّا لنعرف شكل الأخوين رحمة، على سبيل المثال، لولا حرص السياسيين (ورجال الدين) المرتشين من قبلهم على التقاط الصور معهم لتوثيق ابتساماتهم المبتاعة بالدولارات. وكيف يغيب اسمٌ مميّز مثل سموأل بَخش عن نشرات الأخبار عندما تحتل طوابير المحروقات نصف مدة نشرة الأخبار كل ليلة؟ الجواب هو أن في المنظومة خطوط دفاع عدة تحميها وتحمي رؤوسها من خلال التعتيم والتمييع والتسخيف، ونقل الحديث إلى مكان آخر لا يضرّها.

بعيداً عن النقّ، طرح السيد حسن نصرالله في إطلالته الأخيرة المتعافية من السعال، شراء المحروقات الإيرانية بالعملة الوطنية كحلّ للأزمة إذ أننا في لبنان لا نزال نحتاج إلى شراء المحروقات لتغطية إدمان سياراتنا ومولّداتنا الكهربائية عليها ولا نملك إلا هذه العملة التي اقتنع الفرس بقبولها.

طبعاً، يمكننا الدخول في تشريح وتحليل إشكاليات هذه الصفقة، لكن ذلك يتطلّب وقتاً وموارد لا نملكها في «الأخبار»، ولا شكّ أن أعداء نصرالله المتخصصين بتفنيد خطاباته ونقدها وجحافل مفكّريهم وإعلامهم الثري بالعملة الصعبة قاموا بالواجب… فلنرَ ماذا استنتجوا. تُفَّهُ التغريد والتسخيف انبروا على منابرهم إلى تكرار النغمة العالقة في آذانهم منذ تشرين عام 2019، وأن «كلّن يعني كلّن». نعم يا أحبّائي، «كلّن» لا تعني «كلّن» فحسب، بل هي تكرار للكلمة ذاتها. كذلك واحد يعني واحد وهو بالمناسبة عدد المقاعد النيابية الذي يسعى إليه بديل المنظومة في الانتخابات المفصلية القادمة. بانتظار انتشار الديمقراطية بشكل كافٍ في ربوعنا ليصل التشرينيون إلى الحكم، لا بد من إيجاد حلّ لأزمة الوقود.

أشارت ردّة الفعل في كارتيل قطاع المحروقات والمنظومة التي يشكّل هذا الكارتيل أحد دواعمها إلى أن التهديد بكسر احتكارهم للسوق أُخذ على محمل الجدّ، فأُفرج عن اعتمادات لملء خزانات شركات الكارتيل بالوقود الخالي من الأوكتان الإيراني، كما تحرّك النفط العراقي الكاظمي الراكد منذ فترة. هذا الأخير يحتاج إلى تكرير وقد نشهد تهديداً بمصفاة سوريّة لكي تستقبله مصاف غير مغضوب عليها.

التهديد بكسر الاحتكارات، بالكلام وليس بالفعل (حتّى الآن)، أدّى إلى تخبّط في المنظومة الاقتصادية المتحكّمة بلبنان، ما دفعها إلى الاستنجاد برجل المهمات القذرة. فأطلّ زعيم ميليشيات اليمين، المعتزل والتائب حتماً، سمير جعجع منظّراً بالاقتصاد الحر والعرض والطلب. أخيراً يخرج كثيرون من قمقمهم للدفاع عن الاقتصاد الحر. فقبل جعجع حذّر وزير أصحاب العمل السابق سجعان قزّي من الشيوعية التي وصلت إلى لبنان. وهناك قاض سابق طريف يغرّد يومياً عن الويلات التي جلبها اليسار الغوغائي على البلد. استنفار اليمين اللبناني خوفاً من الثورة هو لأنه يدرك أن ممارساته تستدعي الثورة، وأنه عاجلاً أو آجلاً سينتفي حظهم وسيأكلهم الشعب. هذه هي بداية اللعب الحلو، إذ لم تبدأ بعد الطروحات الثورية الجدية، لكنها قادمة حتماً. بالمناسبة، أين قوى اليسار التقليدية مما يحدث؟ إنهم يخافونهم رغم أنهم أموات. إلى أن يستفيق يسار حيّ ويلبّي الدعوة إلى الملعب، من المهم ترشيد هدم دواعم المنظومة. فمقابل كل سلامة هناك عشرات البساتنة ورحمة وشمّاس وجنبلاط وعيسى ويمّين وبَخش الذين يخافون أن تدنّس خزّاناتهم بوقود غير مطابق لشروط الحصار. وهذا كارتيل واحد فقط من كارتيلات «الاقتصاد الحر». يلطون خلف دفاعات قانونية وإعلامية وميليشياوية صقلوها على مدى أجيال، لكنهم يدركون جيداً أنه في الأزمات التي هي نتاج جشعهم اللامتناهي، لا تعود الخزّانات خزاناتهم، ولا المستودعات مستودعاتهم، ولا القصور قصورهم، فما بالك إذا استفاقت الثورة؟