أسئلة كثيرة تثار اليوم بحثاً عن أسباب النتيجة المؤلمة التي وصل اليها السوريون وثورتهم النبيلة، وهل أحكمت لغة العنف، الطوق على حلم التغيير الديموقراطي وبتنا نعيش مناخ هزيمته، أم أن ما يعترضه مجرد عقبات وصعوبات موقتة، يمكن تخفيف آثارها وتجاوزها؟
ثمة من يأنف من الاعتراف بالفشل ويرفض توصيف الواقع الراهن على أنه هزيمة للثورة وشعاراتها، مستقوياً، مرة، بالتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب السوري طلباً لحريته وكرامته، تحدوه لازمة يكررها دائماً، بأن شعباً على هذه الدرجة من الإيثار والاستبسال والتضحية لا يمكن أن تكسر إرادته أو يهزم، ومرة ثانية باستمرار وجود معارضة مسلحة عصية على النظام وحلفائه، حتى لو كانت تمثلها هيئة تحرير الشام، مستهزئاً بالحديث عن هزيمة ما دام نصف أراضي البلاد لا يزال خارج سيطرة نظام يعجز مثلاً عن استرداد حي جوبر الدمشقي! داعياً إلى مزيد من استجرار السلاح، بغض النظر عن مصدره ونوعية الفصائل المقاتلة، لتسعير الصراع في حرب استنزاف طويلة تنهك الخصوم وتقلب موازين القوى!
ومع أن تاريخ الشعوب شهد محطات هزمت فيها ثورات تكبدت تضحيات عظيمة وكانت على درجة عالية من المشروعية والنبل، ومع أنه لا تجوز المقارنة بين اللحظة الراهنة وما قامت به النخب السياسية بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 حين أجمعت على وصف تلك الهزيمة بالنكسة تخفيفاً لوقعها وتوخياً لاستيلاد فرصة الثأر والانتقام منها، لا بد أن نسأل: هل يجانب الصواب من يعتبر ما حل اليوم بقوى الثورة والتغيير في سورية مجرد انكسار عسكري وليس هزيمة؟ وهل يصح تبرير الهرب من الاعتراف بالهزيمة بالقول إن الخراب طال الجميع وليس ثمة منتصر أو منهزم في صراع دامٍ مع نظام فقد شرعيته وعموميته وتهتكت مقومات استمراره وقدرته على التماسك الذاتي، وبات يعاني من أزمة حكم متعددة الوجوه، أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يفاقمها خضوعه التام لإملاءات أطراف خارجية، كروسيا وإيران، تمده بأسباب الوجود والاستمرار على مختلف المستويات؟
وفي المقابل، تتزايد أعداد المعارضين والناشطين الذين بدأوا يستشعرون الهزيمة أو يعترفون بها، وإن اختلفوا على تحديد أسبابها، هل تعود لتعنت نظام لا يهمه سوى الاستمرار في السلطة، رفض تقديم أية تنازلات سياسية واستجر مختلف أشكال الدعم الخارجي ودأب على تشويه الثورة السياسية بربطها بالإرهاب وجرها نحو حرب أهلية طائفية، متوسلاً أشد أساليب العنف والقهر وأشنع الاستفزازات المذهبية بالتواطؤ مع زعماء السلفية الجهادية الذين أطلقهم من سجونه؟ أم يتعلق السبب بمؤامرة مبيتة شارك فيها الجميع كي تصل ثورة السوريين إلى ذلك المستنقع الدامي، وضمنهم يتحمل المجتمع الدولي ومن يسمون أنفسهم أصدقاء الشعب السوري، المسؤولية الرئيسة، من خلال صمتهم وسلبيتهم وعجزهم عن وقف العنف وحماية المدنيين؟ أم ثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المعارضة السورية، إن لجهة تأخرها وعجزها عن قيادة الحراك الشعبي الواسع ومده بالخبرة والمعرفة، وإن لجهة استهتارها بالدور المتنامي لجماعات دينية متطرفة نجحت في خطف الثورة سياسياً وعسكرياً؟!
أسئلة الخلاف حول أسباب الهزيمة قادت إلى أسئلة خلافية حول مسارات المستقبل وما يفترض القيام به لحماية ما راكمته الثورة وتخفيف معاناة غالبية السوريين وشدة ما يكابدونه، فيتساءل بعضهم: ألا تستدعي مرارة مأساتنا تلمس الممكن بعيداً من الرغبات والأمنيات، والنظر بعين واقعية إلى المستقبل؟ أولم يغدو التفاوض، بعد فشل الخيار العسكري، الطريق الوحيدة المتوافرة للعودة إلى حلبة الصراع السياسي والمدني؟ أولا تتطلب اللحظة الراهنة الاستقواء بقرارات المجتمع الدولي والميل لانتزاع ما يمكن انتزاعه من حلفاء النظام لقاء تغطية مصالحهم موقتاً في البلاد والمنطقة؟ وهل من مخرج لاختراق حالة اليأس والإحباط سوى دعم المعارضة لتوحيد وفدها المفاوض، وترشيدها لتقديم تنازلات سياسية لا تضر بجوهر مشروع التغيير الديموقراطي؟
وبدورهم، يتساءل ناشطون: لمَ علينا التمسك بمسرح التفاوض السياسي، ما دامت التنازلات سوف تكر كحبات المسبحة في ظل توازن القوى الراهن، الأمر الذي يهدر التضحيات ويدمر ما راكمته الثورة خلال سنواتها الدامية، ويمكن قوى الثورة المضادة من الإجهاز على فرص الإقلاع مجدداً بمشروع التغيير؟ أوليس الأجدى للمعارضة تمثل سلوك زعماء أوفياء رفضوا توقيع صكوك الاستسلام، وشكلوا بعنادهم حافز تحدٍ وأمل للتاريخ والأجيال القادمة، وأن تكتفي، بعد فشلها المرير، بإعلان موقف واضح وجريء يتمسك بشعارات الثورة ومشروعيتها ويعري مختلف الأطراف التي شجعت أو تواطأت على تدمير حلم شعب بسيط يرغب مثله مثل بقية شعوب الأرض في العيش بحرية وكرامة؟
وبين هذا وذاك ثمة من يجد أن ما بات متاحاً ومجدياً هو التركيز على الملفات الإنسانية، وبذل أهم الجهود لمتابعة قضية المعتقلين وكشف مصير المفقودين والمغيبين قسرياً، والاهتمام بمعاناة اللاجئين والمهجرين، والتشجيع على محاكمة المرتكبين وتحقيق العدالة الانتقالية، بينما يدعو آخرون إلى الالتفات نحو البعدين الفكري والثقافي متسائلين، أليس خير وفاء للثورة وتضحيات السوريين العظيمة هو العمل النقدي لاستخلاص الدروس والعبر بما يعزز وعي المجتمع والذات السياسية وتهيئتهما لخوض جولات جديدة نحو التغيير بأقل الخسائر والآلام، والأهم بما يعيد بناء الثقة بالأفق الديموقراطي الذي تلهفت إليه قلوب السوريين في بداية الحراك الثوري، لكنه لم يحظ بالشروط الكافية التي تمكنه من الرسوخ والتحول إلى خيار خلاصي؟
وما يعزز روح التفاؤل وجدوى الجهد الثقافي، حقيقة أن سورية لن تعود كما كانت ولن ترجع مرتعاً للقهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، ما يفتح الباب للتأسيس والبناء، وإن ببطء ومثابرة، على تراكمات الثورة وخبراتها، يحدوهما دور نوعي لجيل من الشباب الواعد والمؤهل لاستعادة زمام المبادرة، وقد قطع مع ثقافة الماضي بأوهامها ومخاوفها، وعركته معاناة الكفاح من أجل حرية شعبه وكرامته.