IMLebanon

الثورة التي عرّت البعض

 

 

أجمل ما في الثورة أنّها تعري الجماهير. تنزع عنها السطحي وصولاً الى الجوهر الدفين، كامرأة تخفي تحت مساحيقها جمالاً فاتناً أو قبحاً مستتراً. لحظات الفرح والحزن تنسف الماكياج، تظهر معدن المرء: إن كنت أصيلاً تصرّفت بشيم الكبار، وإن كنت وضيع النفس جنحت نحو القبائح مهللاً لكلّ ما هو بغيض.

 

يتناهى إليّ في هذه اللحظات العصيبة صوت جدّتي محذّراً: “إياكِ الاقتران برجلٍ قبل اكتشاف معدنه. عاشريه في لحظة فرحٍ عارم أو حزنٍ بالغ، أو سكرٍ شديد، إن تصرف بدماثةٍ كان من خيرة البشر”. لا يفارقني هذا القول فيما أتابع يوميات ثورتنا. جولاتها لا تقتصر على الساحات الجغرافية، فمعترك “التواصل” أشدّ فتكاً وإيلاماً، وإن لم تسقط منها قطرة دم، فبعض الجروح المعنوية أمضى من ضربٍ مبرح. لا ننكر أن الثورة تنفيسٌ عما يعتمل في النفوس من غضبٍ حيال حقّ مهضوم أو صوتٍ مكتوم أو قيدٍ مؤلم.

 

طبيعيّ أن تشهد الثورة أعمال عنفٍ وشواذات، ولكن معيار تقدّم أيّ مجتمع أو تخلّفه يقاس بمدى تغليب كفة الشرّ في لحظاتٍ مفصلية، فينتقل السوط من الجلاد الى الضحية التي لا تتوانى بدورها عن استخدامه ضدّ آخرين بحماسةٍ معيبة. وبعض مجتمعنا مريض. يهلّل للشتائم والابتذال، وينقلب على مبادئ تنادي بها ثورته، ويغيّب عنوةً أبطالاً يستحقون الثناء، ويكرّس التهكّم على أفراد عاديين لا سند لهم. هكذا يستحيل أشخاص مثل جيهان خوري لقمةً سائغة لدى مجتمع يستلذّ بالانقضاض على الضعفاء. أزعجهم أنها “مبسوطة”! أرادوا الانتقام من بسطِها لمرارةٍ دفينة فوزّعوا رقمها علناً داعين الجميع للاتصال بها والاستفسار هل لا تزال على فرحٍ عارم. نفسياتٌ مريضة إن دلّت على شيء فعلى خواءٍ فكري أكيد. كنا نتمنى لو رأينا هذا السباق المحموم نفسه لتوزيع أرقام من اعتدوا على المتظاهرين عند جسر “الرينغ” بوحشيةٍ بغيضة. حبذا لو قضّوا مضاجع هؤلاء باتصالاتٍ ليل نهار ليسألوهم إن كانوا “مبسوطين” لفعلتهم الحقيرة!

 

أحلى ما في الثورة أنّها لحظةٌ تحض على إعادة النظر بمفاهيم بالية أو أعرافٍ متوارثة اجتاحت العقول بتلقينٍ “مؤدلِج” وغسيلٍ مدروس. إنها ثورةٌ على المُلَقَّن وانتفاضةٌ على السائد. فلنجعلها فرصة صارخة لإعادة قراءة العثرات والوقوف على مكامن الاخفاق والخلل والنهوض بكيانٍ محتضر، وليس تكريساً لمنطق الاقتصاص المجحف، والاستقواء المقيت والانتقام المشين، وهنا الفرق كلّ الفرق!