الثورة و”الحزب” والأحزاب
إذا لم يكن من الممكن الإشارة إلى الأحزاب والقوى السياسية التي تقف في قلب ثورة 17 تشرين فإن من السهل معرفة الجهات السياسية التي تقف ضد هذه الثورة أو التي كانت هدفاً مباشراً لها. لم تظهر أعلام الأحزاب في ساحات الثورة لأنّ اياً منها لم يرغب بأن يكون في الواجهة ولكنّ القوى التي هاجمت الثورة كانت هويتها واضحة. صحيح أنّ الهدف المعلن كان كل الطبقة السياسية ولكنّ الهدف المحدد بقوّة كان تركيبة السلطة الممسكة بالحكم والحكومة المتمثّلة بالثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر.
على عكس ثورة 14 آذار 2005، لا توجد رواية سابقة لثورة 17 تشرين 2019. وإذا كانت ثورة 17 تشرين اعتبرت أنّها لا علاقة لها بالسياسة وأنها أيضاً ضدّ الطبقة السياسية بالتعميم المطلق، فإنّ ثورة 14 آذار كانت سياسية بامتياز. وإذا كانت ثورة 17 تشرين ولدت في لحظة غير متوقعة ومن دون تخطيط مسبق فإن ثورة 14 آذار كانت نتيجة مسار سياسي من قلب الطبقة السياسية. العامل المشترك بين الثورتين هو أنّ من حاربهما وعاداهما كان واحداً. وفي المرتين كانت طريقة المواجهة معلنة ومكشوفة وواضحة.
ثورتان ومواجهة واحدة
بدأت ثورة 14 آذار من انتخابات العام 2000 النيابية. زخم تلك الثورة بُني على قاعدة ثلاثية: البطريرك مار نصرالله بطرس صفير ومعه مكونات لقاء قرنة شهوان والرئيس رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. ساعد في تفجير تلك الثورة عدة محطات: انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار 2000 ووفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد في 10 حزيران 2000 وهجمات 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية وقرار رئيسها جورج بوش الإبن نقل الحرب إلى بلاد الإرهابيين واحتلال أفغانستان والعراق وتهديد النظام السوري، وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي الذي طلب سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. بالإضافة إلى كل هذه العوامل كان الخوف من نتائج انتخابات العام 2005 هو الذي فجّر موسم الإغتيالات التي بدأت مع محاولة اغتيال الوزير مروان حماده ووصلت إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كان هناك عطش شعبي عارم للنزول إلى الشارع والمطالبة بالحرية والسيادة والإستقلال وبدولة قادرة على حماية نفسها وأهلها ومحاربة الفساد. كان واضحاً أن “حزب الله” من خلال مهرجان الوفاء للنظام السوري حاول تأجيل استحقاقات القرار 1559 ولكنّ النتيجة كانت واضحة في الشارع يوم 14 آذار ثمّ في انتخابات 2005 التي قلبت التوازن النيابي لمصلحة قوى 14 آذار. ولكن “حزب الله” لم يستسلم بعد انسحاب الجيش السوري فخاض انقلابات متتالية لكي يعود إلى الإمساك بالوضع الداخلي بالإغتيالات وبقوة السلاح. كانت معركته واضحة ضد الثورة.
بين العام 2005 والعام 2019 خرجت ثورة 14 آذار من الشارع ومن المواجهة وباتت بعد 15 عاماً مفكّكة لا قاعدة أساسية لها إلّا القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي. ولكن على الرغم من كل ذلك لم يمنع هذا التفكك التنظيمي من نزول الناس إلى الشارع في 17 تشرين الأول 2019 في ثورة استعادت مشهد 14 آذار الشعبي وإن اختلفت العناوين السياسية وبعض الشعارات المرفوعة. في 17 تشرين لم يكن العنوان سيادة حرية استقلال فقط، بل خبز وكرامة ودولة جديرة بالإحترام من أجل شعب جدير بالإحترام.
الثورة والهويّة السياسية
لم يكن جمهور 14 آذار كلّه سياسياً من الأحزاب التي كانت قد شكلت تحالف 14 آذار بل كان أيضاً من المجتمع المدني، ولكنّه على رغم اختلاف الإنتماءات السياسية فقد توحّد الجميع تحت راية العلم اللبناني. وفي النتيجة تم فرض خروج الجيش السوري من لبنان ووضع روزنامة عمل سياسي احتاط لها “حزب الله” بالتراجع التكتيكي قبل العودة إلى الإنقضاض على الثورة على قاعدة أن أحدهما يلغي الآخر.
في 17 تشرين لم تكن هناك خريطة طريق سياسية. كان ثمّة اعتقاد أن جذوة الإنتفاضة الشعبية قد خمدت وأن لا قيامة لما يشبه ثورة 14 آذار التي اعتبر “حزب الله” مع التيار الوطني الحرّ أنّها ماتت وتمّ وضع حجر على قبرها. ولكنّ النتيجة قلبت التوقّعات. بسبب ضريبة 6 دولارات شهرياً على “الواتس أب” نزل الناس إلى الشارع لأن كأس الفساد قد فاض إلى الحدّ الذي لم يعد ممكناً احتماله. كان من المؤمّل به أن يعيد انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية تصويب عمل الحكومات والمؤسسات ولكن بدل ذلك كرّس مفهوم الزبائنية وعمّم الفساد والمحسوبية وزاد في الهدر ممّا أوصل الوضع إلى الإنهيار الكامل. من دون أن تكون هناك هويّة سياسية للثورة في 17 تشرين إلّا أنّ واقع الأرض كرّس هذه الهوية.
أرض الثورة
من بداية الثورة كان واضحاً أن “القوات اللبنانية” هي في قلب المطالب التي تحملها هذه الثورة منذ بدأت معارضة نهج الحكم والحكومة. ومن خلال مراقبة تحرك الثورة على الأرض يمكن فهم طبيعة الخريطة السياسية التي ارتسمت عليها ولو من دون إشارات مباشرة ورايات. كما في 14 آذار كانت ثورة 17 تشرين تحت راية العلم اللبناني وبشعارات وطنية عامّة كلّها تدعو إلى استعادة الكرامة والسيادة والحرية كما حصل في 14 آذار.
صحيح أنّ القوى السياسية الداعمة للثورة لم تكن في الواجهة هذه المرّة وأنّ المجتمع المدني هو الذي كان في الصورة ولكنّ الحشود الشعبية في وسط بيروت وعلى الطرقات التي قُطِعت لم تكن كلّها من المجتمع المدني. صارت كل القوى تتحرك وتتجمع تحت هذه الصفة. صارت الثورة كأنها حزب الأحزاب الداعمة لها وحزب الذين لا حزب لهم. من وسط بيروت ساحة الثورة الرئيسية إلى الشفرولية وجل الديب وزوق مكايل والمعاملتين وجبيل وشكا والبترون وقرنة شهوان إلى خلدة والناعمة والسعديات والجية وبرجا وصيدا ومن طرابلس إلى عكار ومن صور إلى النبطية وكفررمان ومن بعقلين إلى صوفر وعاليه والشويفات ومن شتورة إلى زحلة وسعدنايل ومجدل عنجر وصولاً إلى بعلبك كانت الهوية الشعبية والسياسية واضحة. وكانت أهداف الثورة محدّدة وقد عملت هذه “الأهداف” لكي تدافع عن نفسها حتى من دون أن تسمّيها الثورة مباشرة.
من وقف في وجه ثورة 17 تشرين؟ “حزب الله” الذي تولّى أنصاره مهاجمة ساحة الثورة في وسط بيروت وإحراقها وإحراق الخيم والإعتداء على المعتصمين. وهو مع حركة أمل لم يقبلوا أن تكون هناك ثورة واضحة داخل مناطقهما لا سيّما في صور والنبطية وبعلبك. الطرف الثاني الذي وقف ضد الثورة هو العهد ومن معه من التيار الوطني الحر برئاسة المهندس جبران باسيل. وقد حاول عبثاً أن يوقف مسار الثورة من خلال تنظيم تظاهرات معاكسة فشلت في أن تكون قادرة على الدفاع عن العهد والتيار.
الرئيس سعد الحريري غادر مركب الحكم في 29 تشرين الأول 2019 وكأنّه كان مرغماً على اتخاذ هذه الخطوة التي لم يكن يريدها ولا كان تحالف السلطة الحاكمة يريدها مفضلاً إبقاءه معهم من ضمن هذا التحالف. ربما أخطأ في اعتباره أن الثورة كانت موجّهة ضدّه. استقال تحت الضغط، ولذلك كانت علاقته مع الثورة ملتبسة وبقيت كذلك.