جميع الملفّات التي يتناولها المواطنون في الندوات والنقابات والساحات وأماكن العمل، أكانت ملفّات مطلبية أو معيشية أو رؤيوية، وجبَ إعتبارها قضايا وطنية بإمتياز، لأنها صادرة عن معاناة شعبية وعن واقع مُعاش. لذلك على المسؤولين السياسيين الفعليين والجدّيين أخذها على محمل الجدّ، مهما كان تقييمهم لأهمّيتها ولتأثيرها السياسي.
ولأنّ المواطن في الدول الديموقراطية هو المرجع الأساس لتكوين السلطات ومصدر الثقة لها، فهو المسؤول الأساسي عن نتائج حكمها وعن مصير إدارتها للبلاد، ومن هذا المنطلق، وتبعاً لهذه الأهمية، على المجموعات الشعبية أن تسعى لتنظيم نفسها ضمن أحزابٍ وتجمّعات سياسية ذات رؤية وإدراك للواقع العام، وقدرة على التحليل الموضوعي للشؤون الوطنية والتقييم الصائب للقرارات وللخيارات السابقة، وإمكانية لوضع تصوّر للأهداف المُستقبلية، وعند تحلّيها بهذه الخصائص يمكنها عندها توجيه الشعب نحو القضايا الوطنية العميقة والتأسيسية للجمهورية الحقيقية الضامنة لذهنية المواطنية. إن مسؤولية من يُعطي الثقة أهمّ وأخطر من مسؤولية حامل الثقة، لأنّ من يُعطي الثقة يستطيع سحبها، فهو الفيصل والحَكَمْ معاً.
كلما إزدادت أزمات البلدان المأزومة ومشاكل الشعوب المظلومة وتراكمت قضاياهم الداهمة، كما يحصل الآن مع الشعب اللبناني، كلما إزدادت مسؤوليات المواطنين لإنقاذ أنفسهم، وهذا يتأمّن فقط بالوعي لمُسبِّبات الواقع الحالي السيّئ، بإعادة فتح دفاتر الحسابات السابقة وتبيان نتائج تلك الخيارات التي أوصلت المنظومة الحالية، وبذلك إستكشاف الطريق المستقبلية التي تبعدهم عن الإستسلام للمنظومة الحاكمة، أو الضياع بين مجموعات الطروحات المُكثّفة والوقوع في الأفخاخ المحفورة من قبلها، مُستخدمةً من أجل ذلك التغيير شعاراً، للإستفادة من نصاعته وجذبه للفئات الشبابية من الشعب، ولكنها بالواقع تفتقد للرؤية الإنقاذية الواضحة وتحمل في طروحاتها مشاريع رجعية فاشلة وكثيفة ومتفرّعة، تُبعد الحلول عن العلل الأساسية التي تنطلق منها العوارض المرضية الإجتماعية.
في زمن الإنهيارات الإقتصادية الشاملة والتراجع الماراتوني في الوضع المعيشي للشعب اللبناني، أي في زمن حكم منظومة محور التخلّف، الفاقدة لكل معايير المسؤوليات، أصبحت الملفّات المطلبية الطارئة مسألة بديهية ومتراكمة، لأنها أضحت النفس الأخير للشعب الذي يُنازع قبل الموت. ولكن بالرغم من كل ذلك، ومع أهمية هذه الملفّات، وتجنّباً للسعي الى كل شيء مرّة واحدة لننتهي إلى أقل القليل أو لا شيء، يجب أن تبقى الأولوية القصوى لمعالجة مصدر الوباء من أجل الخلاص الحقيقي، فالضياع في المطالب الحياتية اليومية يؤدي الى التضعضع والتشرّذم والإختلافات.
لا شك بأن الدّاعين الى التغيير الجذري يركّزون جهودهم على تغيير الطبقة السياسية الحاكمة، وهذا أمر صائب، لا بل هو واجب وطني وسيادي وأخلاقي، ولكنه ليس طرحاً كاملاً لأن النقاش يجب أن يكون حول نوعية التغيير، كي لا يأتي مشابهاً للتغيير الذي حدث بعد إندلاع الحرب الأهلية سنة 1974، عندما نادت الحركات اليسارية حينها بالعدالة الإجتماعية وبتغيير السلطة وبالإنقلاب على الطبقة السياسية الحاكمة، فأتت النتائج إنقلاباً على إيجابيات الجمهورية الأولى وتم إستبدالها بدولة المافيات بدل دولة المزرعة.
أمّا التغيير الثاني فحدث مع ظهور زعيم شعار التغيير، أي ميشال عون، إبتداءً من سنة 1989ومجدّداً في سنة 2005، الذي حاز على دعم فئاتٍ كثيرة من الشعب اللبناني، فقدّم الشعب له أكبر تكتّل نيابي وتبعاً وزاري بتاريخ لبنان، وفرضه رئيساً حتى قبل أن يُنتخب دستورياً، فأتت النتائج مجدّداً جهنّمية.
التغيير الشعبي الذي يُؤتي بشخصياتٍ جديدة تفتقد للصفات الإصلاحية والتوازن الفكري والجرأة القيادية والإلتزام بالوعود، يُصلح فيه قولاً لونستون تشرشل “تصنعون من الحمقى قادة ثم تسألون من أين أتى الخراب”.
كم انّ فهم المجموعات البشرية لحقيقة الصراعات السياسية والفكرية والتغييرية، مصيري بالنسبة لخياراتها ومستقبل أجيالها، وكم انّ فهم اللبنانيين لأهمية الإبتعاد عن الأفخاخ المزروعة داخل الطروحات الجميلة تُبعدهم عن المسارات المُهدِّدة لهويّتهم ولحرّيتهم ولوطنهم، وكم انّ الوعي الوطني يُحصِّن الشعوب ضد الخروقات من المفاهيم السطحية التجميلية الخاطئة التي تؤدّي حتماً الى تعطيل التغيير المنشود.
إن التغيير في المشاهد والصور النيابية والوزارية والحزبية واللّفظية ليس تغييراً في ذهنية إدارة البلاد بالرغم من ضرورته، والتغيير في البرامج والإدارات ليس بالضرورة تغييراً نحو الأفضل، وقد يكون ببعض الأوقات الإبقاء على بعض جوانب الماضي أفضل من التغيير السلبي، وإن الإنخداع بالتيارات التغييرية التي تسعى لأن تكون جارفة قد يكون ترداداً للماضي القريب بأشكالٍ وأسماءٍ مناسبة أكثر للحاضر، ولكن النتيجة دائماً واحدة، الإبتعاد عن الأساس. يقول ألبرت أنشتاين “لا نستطيع أن نحلّ مشاكلنا، بالعقلية ذاتها التي خلَقتها”.
نعم، إن الأشخاص الذين يتولّون مهمّات سياسية قد يتغيّرون في خضم الضغوطات الشعبية، ولكن عقليات السلطة والمنظومة السابقة قد تتجدّد في الكثير منهم، وخاصةً في هؤلاء الذين يتمسّكون بالشعار الخاطئ “كلن يعني كلن” لتبرئة المُرتكب ولتمويه خطيئته. يعتبر غاندي أنّ من الأشياء التي تُدمّر الإنسان “السياسة بلا مبادئ”، فهل لكل هؤلاء الحاملين لواء التغيير مبادئ أو مُجرّد مصالح وطموحات؟؟؟
وأختم لأقول إن التغيير لا بد منه، ولكن لضمان الوصول الى التغيير البنّاء فهناك تغييريون جديرون بحمل مسؤوليته وقد أثبتوا ذلك دائماً، فهم الفريق السياسي الذي حمل دائماً لواء السيادة بوجه الغزوات والإحتلالات ولم يُخطئ بالهدف، وهم الفريق الذي حمل لواء الشراكة اللبنانية ولم يتراجع يوماً عنها، وهم الفريق السياسي الذي نبّه من خطر دولة الفساد وعرقل إرتكاباتها وإستقال منها وإبتعد عنها، هذا الفريق يملك المبادئ والموضوعية والفكر والقرار والجرأة، إنه “القوات اللبنانية” التي تعرف الأولويات وتستطيع التغيير وقد قرّرت ذلك، فإختاروها.