لم يكن يتصور احد بان مشكلة النفايات ستحرّك المياه الراكدة في بلد لم تجتمع أطيافه منذ عقود بهذه الصورة حول مطلب اجتماعي ملح. لم تكن النفايات إلا الشرارة والدليل على عجز الدولة واحتضارها (كي لا نقول موتها) كفكرة جامعة.
أسوأ ما في الأمر، أن مشكلة النفايات لم تكن يوماً مشكلة تقنية بحتة، بل هي تعبير حي وصارخ عن ذهنية تقاسم مغانم تحكمت بالبلد منذ الطائف حتى الآن، وتشارك فيها تجار سياسة وأمراء ميليشيات و «مقاولون جدد» ممن شاركوا في حكم البلد منذ العام 1992 وبدأ ينفضح أمرهم تدريجيا مع الانسحاب السوري في العام 2005.
وثمة أمثلة كثيرة على هذا الانفضاح، ومنها عدم التمكن من إقرار موازنة للدولة منذ عشر سنوات حتى الآن، العجز المستديم عن احترام المواعيد الدستورية في الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، وهو عجز بلغ ذروته بالتمديد السياسي بحجج واهية للمجلس النيابي لمرتين متتاليتين، من دون أدنى ردة فعل شعبية.
وإذا كان البعض يعتبر أن اللامبالاة الشعبية هي تعبير عن تآكل فكرة الدولة، فان الحراك الأخير بدأ صغيرا وسرعان ما تحول إلى غليان وغضب عندما اكتشف اللبناني ان الزبالة سوف تحاصره لمدة غير محددة زمنياً وان معظم المختلفين في السياسة سيشاركون في تقاسم جبنتها التي تدر اموالاً وذهبا ستمكنهم من استعمالها لتجديد حكمهم وسيطرتهم عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، ما أطلق جرس الإنذار، في ظل قناعة راسخة أن بديل هؤلاء ليس بالضرورة الفوضى وحكم الميليشيات!
إن مشهد «الساحات المختلفة» على أهميته لا يعكس بالضرورة الحجم الفعلي للاعتراض. صحيح أن اعتراض اللبنانيين لم يبلغ حد الثورة أو الانتفاضة، لأسباب عدة منها التركيبة اللبنانية التي تحمي النظام على حساب فكرة الدولة… ولكنه عبر عن اقتناع معظم اللبنانيين بوصول مفهوم الدولة إلى الخط الاحمر، وعن خوفهم عليها وعلى مفهومها التقليدي كدولة حامية للجميع.
لذلك، وبرغم سوداوية المشهد الحالي، نحن محكومون بالامل وينبغي النظر الى كل تحرك من زاوية حب اللبناني الدفين لفكرة دولة الحق، التي تقوم على احترام المؤسسات والمواعيد الدستورية، ولتكن الأولوية لاقرار قانون انتخابي عادل على أساس النسبية وإجراء انتخابات نيابية تفرز ممثلين حقيقيين للشعب اللبناني.