IMLebanon

مخاطر مواجهة لا يريدها أحد

 

نحن أبناء منطقة مبتلاة بالاضطراب وباستمرار القلاقل. لا تحمل عناوين أخبارنا إلى العالم سوى حروب وأزمات وانقلابات، ومواطنين مصطفين على أبواب السفارات أو قابعين في خيم البؤس والفقر. أزمة تنجب أخرى من دون حلول، بحيث يبدو في أكثر الأحيان أن القرارات المتعلقة بمصائرنا أصبحت خارج أيدينا.

لذلك تختلف استنتاجات المحللين بشأن المدى الذي يمكن أن تبلغه الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وإيران، ويمكن أن نقول، لكي نكون أكثر تحديداً، بين الرئيس دونالد ترمب والمرشد الإيراني علي خامنئي و«الحرس الثوري». أزمة تفرض نفسها على المنطقة العربية المهددة بدفع ثمن بالغ لنتائجها. منطقة تقف في وسط الصراع بين الطرفين الأكثر تشدداً في واشنطن وطهران، ونتائجه ستكون مفتوحة على احتمالات كثيرة.

لا الرئيس الأميركي من نوع القيادات المستعدة للمساومة، ويصعب القول إنه قادر على ذلك مع بداية حملة انتخابية لولاية ثانية، تقوم فرص فوزه فيها على سياساته الاقتصادية، وهي أثمرت نجاحات في الداخل، كما على دور أميركا وفرض مواقفها على المسرح الدولي، وهو الرئيس الرافع شعار «إعادة أميركا بلداً قوياً»، والذي هدد إيران بضربة ساحقة إذا تجرأت على الهجوم على القوات أو القواعد الأميركية في الخليج.

ولا المتشددون في إيران مستعدون كذلك للتراجع والمساومة أو قادرون عليهما. فمع الاعتراف من جانبهم بواقع العقوبات الاقتصادية الصعب، فهم يدركون أن المدى الذي أراد ترمب بلوغه من وراء الانسحاب من الاتفاق النووي معهم يتجاوز مفاعيل هذا الاتفاق على صعيد إنتاج سلاح نووي، ليطال صواريخهم الباليستية القادرة على ضرب أهداف في مواقع استراتيجية في بلدان مجاورة لهم، وعلى الأخص في بلدان الخليج، كما يطال تدخلهم في سياسات دول المنطقة، وما أصبح معروفاً بـ«أذرع إيران» المنتشرة في هذه الدول. وعندما يقول الرئيس الأميركي ومسؤولون في إدارته إنهم لا يريدون تغيير النظام الإيراني، بل مجرد تغيير سلوكه، فإن الإيرانيين هم أول من يدرك أن هذين الأمرين لا ينفصلان: هذا السلوك هو ابن هذا النظام، ومن الصعب أن يتغير أحدهما من دون تغيير الآخر. يتداول الإيرانيون أيضاً، كوثيقة إثبات للنيات الأميركية، ذلك الفيديو الذي وضعه مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون على حسابه على «تويتر» بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية في فبراير (شباط) الماضي، وقال فيه للمحتفلين الإيرانيين: لا أعتقد أنكم ستحتفلون في مناسبات كثيرة أخرى بذكرى الثورة!

هاجس التعايش مع النظام الإيراني، الذي يثير قلق المجموعة الدولية الباحثة عن مختلف الطرق للعثور على لغة مشتركة للتفاهم معه، هو قبل ذلك هاجس المنطقة العربية والخليجية على الأخص. إيران المتدخلة في شؤون المنطقة والتي تعتبر نفسها «وصية» على من تعتبرهم حلفاء لها، بسبب الانتماء العقائدي أو المذهبي، هي إيران التي تعرفها المنطقة العربية، بنظامها الحالي، منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي. إنه النظام المتحكم بمصير شعبه، والمثير للقلق والاضطرابات لجيرانه.

بين الموقفين المتشددين، الأميركي والإيراني، تنشط الوساطات، منطلقة من حجم الخطر الذي يشكله تطور هذا النزاع إلى مواجهة مباشرة في منطقة هي اليوم من أكثر المناطق حساسية على خريطة العالم، للأسباب الاقتصادية والاستراتيجية المعروفة. أبرز الوسطاء الآن هم الأوروبيون، انطلاقاً من كونهم طرفاً، إلى جانب الولايات المتحدة، في الاتفاق النووي مع إيران. ولا يوجد ما يشير إلى تقدم فرص النجاح لهذه الوساطة. ففيما تقف بريطانيا، الموشكة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الولايات المتحدة في نزاعها مع إيران، لا تجدُ دولٌ بارزة أخرى، مثل ألمانيا وفرنسا، ما تعرضه. فالدولتان لا هما قادرتان على إقناع ترمب بإعادة الاعتبار للاتفاق النووي، ولا على إقناع طهران بإعادة التفاوض عليه من جديد بالشروط الأميركية. وتحت ضغط الابتزاز الذي تمارسه طهران، بتهديدها بالاتجاه إلى الخروج من التزامات الاتفاق، ورفع نسبة إنتاج اليورانيوم المخصب فوق ما هو مسموح لها بموجبه، فإن الدول الأوروبية سوف تجد نفسها مضطرة إلى التحلل هي أيضاً من اتفاق بات في حكم الميت، بعد أن خرجت منه رافعته الأساسية، الولايات المتحدة. ففي نهاية الأمر، يعرف الجميع أن قاعدة الاتفاق النووي قامت منذ البداية على تفاهم إدارتي باراك أوباما وحسن روحاني. وانهارت هذه القاعدة عندما قرر الرئيس ترمب إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل العام 2015، وأخذت إدارته تتعامل مع روحاني على أنه شخصية هامشية في نظام يقوده من الناحية الفعلية المرشد علي خامنئي و«الحرس الثوري».

إلى جانب الوساطات الخجولة، هناك خطوات عسكرية توحي بأن البلدين يخوضان جس النبض، ويترددان في التقدم إلى حرب أوسع نطاقاً. يقصف الإيرانيون ناقلات النفط في الخليج، وتلتقط الكاميرات الأميركية صور «حرسهم» يزيلون ما تبقى من ألغام، ولا تتردد طهران في نفي مسؤوليتها وفي إعلان استضافة البحارة، وتفعل الشيء نفسه بعد إطلاق الصواريخ على مقر لشركة «إكسون موبيل» في البصرة، وقبله على قواعد للقوات الأميركية قرب بغداد والموصل، فيما التقت جهات أمنية عراقية وأميركية على اتهام جماعات عراقية تدعمها إيران بالمسؤولية عن هذه الهجمات. يضاف إلى ذلك بالطبع تصعيد الحوثيين هجماتهم على مواقع حيوية داخل الأراضي السعودية، بدعم إيراني مباشر.

في هذا الوقت أعلن «الحرس الثوري» إسقاط طائرة تجسس من دون طيار (درون) قال إنها دخلت المجال الجوي الإيراني، فيما أكد مسؤول أميركي أن الطائرة التابعة للبحرية الأميركية لم تكن تحلق في أجواء إيران، بل كانت في الأجواء الدولية، فوق مضيق هرمز.

رغم هذا التصعيد وفيما يهدد الرئيس الإيراني برفض ما يسميها شروطاً وإملاءات أميركية، يؤكد أن بلاده لا تريد الحرب لكنها مستعدة للدفاع عن نفسها، كما نسمع من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن «الرئيس ترمب لا يريد الحرب، وهناك رسائل كثيرة يتم تبادلها بين البلدين في الوقت الحالي»!

هل يعني ذلك أن واشنطن وطهران تعرفان عواقب الحرب وتترددان في دخولها؟ هذا على الأقل ما تأمله دول المنطقة التي عانت كثيراً من المغامرات المتلاحقة وتسعى إلى توفير فرص أكثر استقراراً لحياة مواطنيها ولمستقبلهم. غير أن الظروف الخارجية غالباً ما تفرض نفسها في منطقتنا على آمال أبنائها، ومن هنا الخوف من خطأ في الحسابات، يمكن أن يجر المنطقة إلى مواجهة، جميعنا بغنى عنها.