ليس سرّا أنّ الرئيس فواد السنيورة كان صديقا للرئيس الشهيد رفيق الحريري. هناك علاقة عمر بينهما عائدة إلى أنّهما من صيدا وأنّهما يعرفان بعضهما بعضا منذ الصغر، إضافة إلى أنهما تشاركا في الإنتماء إلى حركة القوميين العرب في مرحلة معيّنة.
الأهمّ من ذلك كله أن السنيورة، مع الوزير السابق باسم السبع والنائب الحالي غازي يوسف، وهما من المقربين من رفيق الحريري أيضا، رسموا، من خلال معرفتهم بالرئيس الشهيد، الإطار الذي اغتيل فيه الرجل مع رفاقه، قبل عشر سنوات، في الرابع عشر من شباط ـ فبراير والظروف التي رافقت الجريمة.
من خلال متابعة التطورات، بما في ذلك ملء ايران الفراغ الأمني الذي خلّفه الانسحاب العسكري السوري من لبنان نتيجة إغتيال رفيق الحريري، كشفت الشهادات التي أدلى بها فؤاد السنيورة وباسم السبع وغازي يوسف، وقبلهم مروان حماده، أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تفاصيل دقيقة تتعلّق بالمرحلة التي مهّدت لعملية الاغتيال.
لم يكشف الأربعة العلاقة بين النظام السوري والاغتيال، أو على الأصحّ العلاقة بين «ولد« اسمه بشّار الأسد والجريمة فحسب، بل كشفوا أيضا حقيقة النظام السوري والخطر الذي شكلّه على سوريا والسوريين قبل لبنان واللبنانيين.
وعبارتا «ولد سيحكم سوريا« و«الله يساعدنا« وردتا في الشهادة القيّمة لباسم السبع، وذلك نقلا عن رفيق الحريري، بعد اللقاء الأوّل الذي عقده رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك مع بشّار الأسد الذي كان يعدّ نفسه لخلافة والده الذي توفّى في العام .
ما يربط بين شهادات الشخصيات اللبنانية الأربع، إضافة إلى شهادات لشخصيات أخرى مثلت أمام المحكمة الدولية التي تشكّلت بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، هو إصرار النظام السوري على تعطيل أي تقدّم في لبنان. لم يكن من همّ لدى النظام السوري سوى الإستثمار في عملية العرقلة، كي لا يتمكّن لبنان من استعادة عافيته.
لم تكشف المحاكمة التي تجري في لاهاي الظروف التي مهّدت لاغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما والسياق الذي وقعت فيه الجريمة فقط. كشفت خصوصا طبيعة النظام السوري وتكوينه والأسباب التي أدّت إلى وصوله إلى ما وصل إليه الآن. النظام إنتهى ولم يعد أمامه سوى تسليم كلّ سوريا لإيران في مقابل عدم تحرير دمشق…
تساهم المحاكمة في فهم أمور كثيرة، خصوصا لدى من يحاول فهم عقلية النظام الذي دمّر سوريا كلّيا بعدما فشل إلى حدّ ما في تدمير لبنان. من بين هذه الأمور لماذا «إنتحر« غازي كنعان ولماذا فُجّر آصف شوكت مع آخرين ولماذا «استشهد« جامع جامع ولماذا انتهى رستم غزالة بالطريقة التي انتهى بها في ظلّ اشاعات متناقضة لا هدف لها سوى تغطية الجانب الأهمّ في القضية المرتبطة بضابط فاسد، من سقط المتاع، كان ينفّذ اوامر بشّار الأسد في لبنان.
يتمثّل الجانب الأهمّ في موضوع رستم غزالة، في نهاية المطاف، في الإنتهاء من رجل يعرف الكثير عن لبنان من جهة وكيفية إكتمال السيطرة الإيرانية على سوريا، خصوصا على دمشق ومحيطها والمنطقة المحاذية لخط وقف النار مع اسرائيل من جهة أخرى.
بعد الذي رواه الشهود بالتفاصيل أمام المحكمة، وبعد نقل فؤاد السنيورة عن الرئيس رفيق الحريري قوله له في السيارة التي كان يقودها «أبو بهاء« أنه كُشفت محاولات عدّة لإغتياله «خطّط لها حزب الله«، بدأت تكتمل الصورة لبنانيا وسوريا. بدأ يتكشّف الخوف لدى النظام من أي نجاح يتحقّق في لبنان. لذلك كان لا بدّ من التخلّص من رفيق الحريري الذي يظلّ في النهاية رمزا للنجاح. هل كان مطلوبا أن يبقى شبح الموت والدمار مخيّما على بيروت كي يبقى رفيق الحريري حيّا؟
لم تعد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مجرّد محكمة تستهدف كشف الحقيقة تمهيدا للإقتصاص من القتلة. فمن خلال شهادات الشهود، بدأت ترتسم صورة كاملة لنظام عمل منذ ما يزيد على خمسة واربعين عاما على تخريب لبنان ونشر البؤس فيه وإرهاب السوريين. إنّه نظام لم يؤمن يوما سوى بمقولة واحدة هي أن الإنتصار على لبنان بديل من الإنتصار على اسرائيل. فمنذ كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع بين و، لم يكن لديه من همّ سوى إغراق لبنان بالسلاح. أراد دائما الإنتقام من لبنان كي لا تنتقل عدوى قصة النجاح اللبناني إلى سوريا والسوريين.
لا توجد جريمة أكبر من جريمة دفع الفلسطينيين إلى حمل السلاح في لبنان وخوضهم حروبا مع المسيحيين أوّلا. لا توجد جريمة أكبر من جعل «جيش التحرير الفلسطيني«، بألويته الموالية للنظام السوري، يرابط على طول ما كان يسمّى «الخط الأخضر« الفاصل بين المسيحيين والمسلمين في وسط بيروت المدمّر.
يخشى النظام من أي نجاح لبناني، كما يخشى من أي نجاح سوري. مطلوب في كلّ وقت نشر البؤس في لبنان كي لا تنتقل عدوى الإزدهار إلى سوريا. فالإزدهار يعني مطالبة المواطن بالمزيد، خصوصا بالحد الأدنى من الحياة الكريمة والكرامة والمزيد من الحرّية والإحترام. كان همّ حافظ الأسد، وبعده بشّار الأسد، منصبا على إفقار المواطن وتيئيسه وتذكيره بأنّ تمرّده سيعني بالنسبة إليه العيش في بلد تسوده شريعة الغاب، كما كانت عليه الحال في لبنان بين العامين و من القرن الماضي.
تمرّد اللبنانيون فدفعوا الثمن غاليا. إغتيل رفيق الحريري. لم يدر النظام السوري أن الجريمة سترتد عليه، تماما كما ارتدّت جريمة غزو الكويت على صدّام حسين. لم يدرك يوما بشّار الأسد أن ثمن دمّ رفيق الحريري سيكون في هذا الحجم. لم يدرك أوّلا أنّه سيخرج من لبنان. لم يدرك أنّه سيتحّول شيئا فشيئا إلى تابع لإيران…في لبنان أوّلا وفي سوريا لاحقا. مثلما خرج النظام من لبنان، سيخرج من سوريا، لا لشيء سوى لأنّه لم يتصوّر يوما أن الجريمة ستُكشف وأنّها ليست مجرّد «رذالة« على حد تعبير إميل لحود الذي إعتقد أنّ رفيق الحريري ذهب ضحيّة حادث سير.
هل يخرج بشّار الأسد من سوريا لتحلّ مكانه ايران؟ هل هذا ممكن؟ هل هذا منطقي؟ هذا هو السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا في ظلّ استمرار الثورة السورية وجلسات المحكمة الدولية…