ليس صحيحا توصيف الوضع المتعثر في تأليف الحكومة بأنه عودة الى المربع الأول. الصحيح ان المناخ السياسي بعد الانتخابات وتكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة كان أفضل من المناخ الحالي. والصحيح أيضا ان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية اليوم أشدّ حدّة مما كانت عليه يوم ٢٤ أيار مع الآمال التي جرى تعليقها على مؤتمر سيدر حيث الوعود الدولية بالاستثمار واللبنانية بالاصلاحات الاقتصادية والمالية. فلا أزمة التأليف أزمة جامدة بل متحرّكة. ولا الوقت الذي نهدره في السجالات هو مجرد وقت ضائع يمكن تعويضه بعد تأليف الحكومة.
ذلك ان أزمة التأليف تهدّد بالانتقال من عملية متعثرة الى عملية متعذرة. وهي أعادتنا الى شيء من عصبيات ما قبل الطائف، وشيء من عصبيات ما بعد الطائف. فالتسوية الرئاسية والحكومية مهتزّة. وأطرافها يعرفون انه لا مجال للعودة عنها، ولا مصلحة في الخروج منها، ولا إمكان لادارة السلطة بالطريقة نفسها التي أديرت بها منذ تأليف الحكومة الحالية. وتفاهم معراب صار من الماضي، وان بقيت القوات اللبنانية مصرّة في الخطاب على التمسك به على الرغم من اعلان التيار الوطني الحر سقوطه، مع اصرار الطرفين على استمرار المصالحة.
والمشكلة ليست الخلافات السياسية. فهي من طبائع الأمور في أي نظام ديمقراطي. وهي ضرورة حين تكون نوعا من التنافس على أفضل البرامج لخدمة الناس، ونصرة حين تصبح تعبيرا عن منافسات وطموحات شخصية. المشكلة هي التصرّف كأن العمل السياسي هو مجرد اطلاق شعارات والركض في الصحراء من دون تحقيق أي شيء.
وما نراه في أزمة الحكومة هو استمرار الصعود الى الأشجار العالية، من دون أن تكون هناك جهة قادرة على مدّ السلالم للنزول عن الأشجار. لا بل الصعود مع رفض الالتفات الى ما تحت على الأرض من قضايا ملحّة للناس وتحديات كبيرة أمام لبنان. كأننا في مسرح سياسي لا في بلد، وكأن كل ما على الممثلين هو الاستمرار في اداء أدوارهم، ولو انهار المسرح.
ولا بأس في المفاخرة باعداد قانون انتخاب واجراء انتخابات نيابية بعد تسع سنوات من آخر انتخابات. لكن الواقع ان القانون الهجين أدى الى تزوير النسبية بأسوأ صيغة للصوت التفضيلي. وهو فرض تحالفات هجينة ظهرت آثارها في أزمة تأليف الحكومة. والواقع أيضا ان كل يوم يمرّ على الأزمة يزيد من خطواتنا على طريق انحداري، على أمل ان توقفنا شجرة.
والمفارقة ان الذين يمارسون لعبة التأزيم في خدمة أهداف مختلفة، يعرفون انه لا مفرّ من تسوية في بلد لا يُحكم إلاّ بالتسويات.