لا تبعد آستانة كثي ًرا عن دمشق وإسطنبول وموسكو٬ أكبر مسافة لا يستغرق قطعها بالطائرة أكثر من خمس ساعات٬ وبهذا المعنى لا يحتاج الذاهبون إلى آستانة أكثر من ذلك للوصول٬ وعقد اجتماع بين ممثلين عن نظام الأسد والمعارضة السورية للبحث في القضية السورية٬ وآفاق حلها حلاً سلمًيا بحضور كل من روسيا وتركيا اللتين أخذتا على عاتقهما رعاية مؤتمر آستانة٬ في إطار مساعي روسيا وإيران وتركيا وفق إعلان موسكو للوصول إلى حل سياسي في سوريا.
ورغم أن الوصول إلى آستانة لا يحتاج أكثر من ساعات٬ فإن الموعد المقدر أطول من ذلك بكثير٬ وقد يطول أكثر من كل التوقعات٬ والسبب أنه لا تتوفر أساسيات مهمة في عقده٬ تتجاوز ما تم الإعلان عنه من أنه اجتماع يجمع بين ممثلين للنظام والمعارضة٬ وأنه سيبحث في الحل السياسي تحت رعاية روسية تركية٬ وهذه النقاط غير كافية لنجاح آستانة٬ ولا تكفي ليحقق من خلالها أي تقدم على طريق حل للقضية. ولأن الأمر على هذه الصورة٬ التي يعرفها الروس والأتراك وكل المتابعين للقضية وتطوراتها٬ فإن الراعيين سيعقدان اجتما ًعا في آستانة للبحث فيما ينبغي القيام به من خطوات٬ يساعدهما في الوصول إلى الغاية المرجوة.
ورغم الأجواء الإيجابية٬ التي قوبل بها التوافق الروسي التركي٬ والإعلان عن آستانة٬ فقد ظهرت هنا وهناك ملاحظات٬ لا شك أن القسم الأكبر فيها جوهري وحساس٬ مثال الرابط الذي سيحكم آستانة بما سبقه من جهود ومساعي الحل السياسي في سوريا٬ وخصو ًصا الجهود التي بذلت في جنيف عبر الأعوام الثلاثة الماضية٬ وكذلك ثمة سؤال عن دور الدول الأخرى٬ ومنها دول إقليمية فاعلة ومؤثرة بالموضوع السوري٬ مثل المملكة العربية السعودية٬ ومثله سؤال عن دور الدول الأوروبية٬ ومنها فرنسا وبريطانيا وألمانيا٬ إضافة إلى الغموض المحيط بالدور الأميركي فيما يتصل بآستانة.
ومما لا شك فيه أن دور إيران ومن خلفها الميليشيات التابعة لها في سوريا٬ ينبغي أن يوضع في الحسبان٬ ولا يكفي في هذا المجال٬ القول إن إيران إلى جانب روسيا وتركيا٬ قد شكلت توافقًا ثلاثًيا حول سوريا من خلال إعلان موسكو٬ أو من خلال موافقتها الملتبسة على وقف إطلاق النار في سوريا٬ التي من الواضح أنها موافقة مشكوك فيها٬ ليس بسبب خروقات نظام الأسد والميليشيات الشيعية المرتبطة أسا ًسا بمواقف وقرار طهران٬ وإنما أي ًضا بسبب التصريحات الإيرانية الرسمية٬ التي أكدت أن إيران لن تلتزم بوقف العمليات العسكرية في سوريا٬ طالما تطلب الأمر ذلك.
والآن بدا أن المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري٬ وافقت في غالبيتها على وقف إطلاق النار٬ وأيدت على نحو عام فكرة الذهاب إلى آستانة٬ غير ذلك كله يمكن أن يكون في مهب الريح٬ إذا استمرت العمليات العسكرية لقوات النظام والميليشيات الشيعية في الهجوم على المناطق المحاصرة٬ ولا سيما في ريف دمشق الشرقي والغربي أملاً في سيطرة النظام عليها قبل عقد آستانة في إطار تحسين الموقف التفاوضي للنظام وحلفائه هناك٬ ويقابل وفد المعارضة الذي لم يتحدد بعد من سيمثله طبقًا لرؤية روسيا وتركيا٬ ولكلتيهما موقف مختلف٬ حتى إن توافقتا على دعوة ممثلين عن تشكيلات المعارضة المسلحة٬ التي فاوضها الروس في أنقرة٬ وقد باتت أكثريتها تعتقد في ضوء التجربة أن تمثيلها للمعارضة في مفاوضات آستانة٬ لن يأتي بالنتائج الأفضل٬ مما يجعلها أقرب إلى مشاركة الهيئة العليا للمفاوضات في آستانة ممثلاً للمعارضة٬ لكن ثمة معارضة وتحفظات روسية حيال ذلك٬ وقد يدفع الروس إلى طرح أطراف أخرى يحسبونها على المعارضة مثل قوات سوريا الديمقراطية٬ التي تضع أطراف المعارضة السورية وتركيا في آن مًعا اعترا ًضا جدًيا على مشاركتها في أي مرحلة من مراحل التفاوض.
وإذا تجاوزنا فكرة المشاركة والحضور في آستانة٬ فإن ثمة مشكلة أكبر٬ ما زالت تجعل من آستانة أبعد مما يعتقد البعض٬ والأهم في هذا موضوع المؤتمر ومخرجاته المحتملة. فإذا كان المؤتمر للبحث في الحل السياسي٬ فأي مصداقية يمكن توقعها من جانب نظام الأسد وحلفائه الذين ما زالوا متمسكين بالحل العسكري٬ ولا يرون غيره إلا في إطار حملات الدعاية وتضليل الرأي العام٬ حيث النظام والميليشيات الشيعية٬ ما زالا يتابعان عملياتهما٬ ولم تبرد بعد محركات الطائرات الروسية٬ التي كانت تقصف حلب٬ وما زالت قوات روسيا الجوية والبرية والبحرية في وضع الاستنفار لاستئناف العمليات العسكرية الواسعة في سوريا.
إن الروس وفي ضوء السياسة العملية٬ التي طبقوها في سوريا٬ لا يتجاوزون في مخيلتهم عن الحل السوري إلا قليلاً٬ نهجهم في الهدن والمصالحات٬ التي تمت مع التشكيلات العسكرية في المناطق المحاصرة٬ وعليه فإن من الممكن بالنسبة لهم جعل آستانة مثالاً أفضل بقليل من حالات الهدن والمصالحات٬ التي تمت في الداخل٬ وربما هذا هو الأفق الذي جعل الإيرانيين٬ يرون في نتائج آستانة٬ أنها ستكون محادثات تلقي فيها المعارضة المسلحة سلاحها٬ وتعترف بالنظام٬ وهذا لا يمكن أن يتم٬ ولو تم فإنه لن يضع القضية السورية أمام حل لا عسكري أو سياسي.
إن طريق آستانة ما زال وهما بالنسبة لحل القضية السورية٬ ومن أجل أن يصبح طريقًا واقعًيا وممكنًا٬ لا بد من تعبيده بتوافقات واضحة الأهداف٬ وتوفير آليات الوصول عبره إلى هدف٬ يكون ممكنًا وواقعًيا٬ وأن تتوفر له بيئة حاضنة في المستويات الثلاثة؛ المحلية والإقليمية والدولية٬ فلا يكفي أن يقول طرف أو طرفان أو ثلاثة وأكثر٬ إنهم اختاروا طريقا ما٬ لتأكيد أن الطريق يوصل إلى الهدف٬ وخصو ًصا إذا كان الهدف حلاً سورًيا عبر آستانة.