قد تكون الزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية الى السعودية نقطة تحوّل في العلاقات الثنائية، ربما تنعكس ايجابياً على الوضع الاقتصادي في الأيام الطالعة. لكن الانجاز الآخر الذي تحقق، ولم يتنبّه له كثيرون، ان طريق التعاون الاقتصادي مع طهران أيضاً، باتت سالكة وآمنة.
من المفترض أن تكون زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوفد الرسمي المرافق، إعادت الى السعودية الروح الى العلاقات الثنائية التي عانت في السنوات الأخيرة، من نكسات متتالية دفعتها الى الهبوط الى القعر.
وقد عانى لبنان اقتصادياً نتيجة هذا الوضع الشاذ في العلاقات، اذ غاب السائح السعودي والخليجي، وانكفأ المستثمر الخليجي، وتأثرت اوضاع اللبنانيين العاملين في الخليج جزئياً بهذا المناخ.
ورغم ان السلطات في المملكة لم تتعرّض لأي لبناني عامل لديها، الا ان الوضع النفسي لهؤلاء تراجع، بعدما وصلت عدوى العلاقات السيئة الى المستوى الشعبي، وبات اللبناني يشعر وللمرة الاولى، انه غير مُرحّب به من قبل المواطن السعودي نفسه، بعدما كانت العلاقات الشعبية ترتقي الى مستويات مميزة من المودّة والاحترام المتبادل.
هذه الغيمة السوداء انتهت اليوم، وهناك مؤشرات على أن المرحلة المقبلة ستشهد حتما تبديلات في السلوك الرسمي والشعبي في الاتجاهين، بحيث يستعيد لبنان واللبناني مكانته المميزة في دول الخليج العربي، ويستعيد لبنان جاذبيته الخاصة حيال السياح والمستثمرين الخليجيين.
أما المساعدات المباشرة، ومنها ربما الهبة السعودية الى الجيش، فانها مرتبطة بالوضع المالي العام في الخليج، وهو وضع يحتّم شدّ الأحزمة، أكثر مما هي مرتبطة بالشروط والاثمان السياسية المطلوبة من لبنان.
بعد تراجع اسعار النفط بنسب وصلت الى 60 في المئة، اضطرت حكومات الخليج الى التأقلم مع واقع طارئ. وقد تمّ خفض الموازنات، واعتُمد خيار الاقتراض من السوقين الداخلي والخارجي. واذا أضيفت الى هذا الواقع متطلبات حرب اليمن، يتبين ان السعودية تحتاج الى انتهاج سياسة مالية مختلفة عن السابق. هذا الوضع دفع الى تسريع ولادة خطة اقتصادية سعودية جديدة عُرفت برؤية 2030، قدمها الرجل القوي في المملكة ولي ولي العهد، محمد بن سلمان.
العنوان العريض لهذه الخطة تقليص الاعتماد على النفط، وزيادة ايرادات المصادر الاخرى. على سبيل المثال، تهدف الخطة الى زيادة الايرادات غير النفطية من حوالي 45 مليار دولار سنويا حاليا، الى حوالي 300 مليار دولار، من خلال رفع حجم الصادرات السعودية غير النفطية من 16 في المئة، كما هي النسبة اليوم، الى حوالي 50 في المئة، أو أكثر.
بانتظار أن تأتي هذه الرؤية ثمارها، يبقى الوضع المالي في السعودية مختلفا عن سنوات البذخ والبحبوحة السابق. وفي توصيف علني استخدمه وزير المالية السعودي، محمد الجدعان في مؤتمر صحافي، قال ان الكارثة الاقتصادية ستقع اذا لم يتم تدارك الأزمة.
وتحدث الجدعان عن مداخيل النفط التي تقدّر بحوالي 90 مليار دولار سنويا، في حين ان الانفاق على الرواتب والاجور في القطاع العام السعودي تبلغ حوالي 130 مليار دولار سنويا. في حين قدّر الوزير الايرادات غير النفطية بحوالي 55 مليار دولار بما يجعل المجموع العام للايرادات حوالي 145 مليار دولار.
هذا المبلغ غير كافٍ سوى للرواتب واعمال الصيانة، في حين ان تمويل المشاريع الاستثمارية والانفاق على المجهود الحربي الاضافي سيتحول تلقائيا الى ديون. هذا الواقع دفع السعودية الى رفع الدعم عن مجموعة واسعة من السلع والخدمات، بهدف تأمين ايرادات اضافية قدّرها وزير المالية بحوالي 80 مليار دولار سنويا. هذه الايرادات سيتحمّلها المواطن السعودي، والوافد والشركات.
هذه الحقائق تقود الى نتيجة واضحة، مفادها ان الدعم السعودي للدول الصديقة، ومن ضمنها لبنان العائد الى لائحة الاصدقاء، لن يكون مباشرا وعلى شكل مكرمات. لكن هل تكون الفوائد واضحة من خلال السياحة والاستثمارات التي قد يقوم بها القطاع الخاص السعودي، ومن خلال الارتياح النفسي الذي سيشعر به اللبناني العامل في السعودية والخليج؟.
في مقابل هذه الايجابيات التي لا ينبغي التقليل من أهميتها، تبرز القضية المرادفة التي تتعلق بتغيير نهج التعامل مع ايران كقوة اقتصادية اقليمية يمكن للاقتصاد اللبناني ان يستفيد منها في الحقبة المقبلة.
وهنا لا بد من الاشارة الى سقوط محظورين كانا حتى الامس القريب يحولان دون فتح الطريق امام التعاون الاقتصادي بين بيروت وطهران:
المحظور الاول، يرتبط بالعقوبات الدولية على ايران والتي كانت تعرقل الانفتاح والتعاون. هذا المحظور هل سقط مبدئياً مع الاتفاق النووي بين ايران والدول الست؟.
المحظور الثاني، يتعلق بالموقف السياسي لأطراف لبنانية صديقة ومنخرطة في المحور الخليجي، والتي كانت تعارض ضمناً، وعلناً احياناً، هذا الانفتاح. اليوم، وبعد الموقف المتقدم لرئيس الجمهورية المحسوب اساسا على خانة الصداقة للمحور الايراني، وبعد موقف حزب الله المسهّل لانجاز زيارة السعودية، واعادة تطبيع العلاقات مع الخليج، صار صعباً، بل شبه متعذّر، على الاطراف السياسية الصديقة للمملكة ان تعترض على الانفتاح على ايران.
وقد يكون موقف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع حيال عدم الممانعة في حصول الجيش اللبناني على السلاح من ايران، ومسارعته الى ايفاد احد وزرائه لتقديم التعزية في السفارة الايرانية، هما مؤشر اضافي على ان الطريق الى طهران، على المستوى الاقتصادي على الأقل، صارت معبّدة.
تبقى بعض العقبات التي تحتاج الى توضيحات، من أهمها الموقف الاميركي حيال دخول البنوك اللبنانية الى السوق الايراني، خصوصا في حقبة عهد دونالد ترامب الذي يبدو حتى الان متشددا حيال ايران.
والسؤال، هل يتحول لبنان الى منصة تتقاطع فيها العلاقات الاقتصادية والتجارية المميزة مع الخليج من جهة، ومع ايران من جهة أخرى؟. هذا الواقع، في حال ترسّخ في الاشهر المقبلة، هل سيزيد من فرص لبنان ليكون منصة شبه وحيدة يتم الانطلاق منها لاعادة اعمار سوريا، عندما يحين الوقت لذلك؟.