يعيش اللبنانيون حالاً من الارتباك «المبرّر»، نتيجة ما تشهده المنطقة من تطوّرات سياسية وأمنية، يُخشى معها أن تنعكسَ سلباً على نظامِهم السياسيّ وعَقدِهم الاجتماعي، بعدما دفعوا ثمنَه غالياً من أرواحِهم وجراحهم واقتصادهم.
ما يُبرّر هواجسَ المجتمع اللبنانيّ بكلّ أطيافه وفئاته، الكلامُ المتزايد عن تغيير ديموغرافية بعض دوَل المنطقة، وأبرزُها العراق وسوريا، وتأثير ذلك على الوضع الداخلي اللبنانيّ، وهو بطبيعته «هَشّ». وهذا التغيير، في حال حصوله، سيؤدّي إلى إعادة وضع النظام السياسي للكيان اللبناني مجدّداً على طاولة البحث والنقاش بين مختلف الفرَقاء، تحت عنوان ما يُسمّى اليوم «المؤتمر التأسيسي».
وعلى رغم تأكيد معظم الأطراف الداخليّة المعنيّة – أقلّه إعلاميّاً – رفضَها التامّ، فكرةَ هذا المؤتمر، ومبرّرات انعقادِه، إلّا أنّ مساحة الاطمئنان لدى الشعب اللبناني بدأت تضيق رويداً رويداً، مع تزايُد حدّة المواجهات بين الفرَقاء المتنازعين، على المستويَين الاقليمي والدولي.
«المناصفة» قاعدة ارتكاز
من هنا، يمكن القول إنّ موافقة الرئيس سعد الحريري على مبدأ الحوار مع «حزب الله»، هدفُها أساساً تعميم حال من الاسترخاء والاستقرار، لا بدّ أن يشعرَ بها المواطن المسيحيّ في الدرجة الأولى، وبقيّة اللبنانيين عموماً، باعتبار أنّ الحريري لا يزال مؤمِناً بالقاعدة الأساس التي رسمَها والدُه الرئيس الشهيد رفيق الحريري للبنان بعد توقيع «إتّفاق الطائف»، وعنوانُها المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين، وبأنّ أيّ تغيير في هذه المعادلة، مهما تبدَّلَ الواقع الديموغرافيّ، سيؤدّي حتماً إلى انهيار النظام السياسيّ القائم، والعودة مجدّداً إلى نقطة الصفر، أو بالأصحّ، إلى نقطة «اللاعودة».
مع ذلك، ولو افترضنا أنّ الجزء الأكبر من مسيحيّي لبنان، يثقون بخيارات الحريري، ويَطمئنّون إلى نيّاته الحسَنة التي أظهرها في أكثر من محطة مفصلية، إلّا أنّهم في الوقت نفسه، وهذا «حقّهم» جرّاء ما يحصل من حولِهم، قد يشعرون بالارتياب، لحظة جلوس تيار «المستقبل» و»حزب الله» على طاولة مستديرة واحدة، للبحث في آفاق وعناوين المرحلة المقبلة.
يقول الباحث ورئيس التجمّع الدستوري الديموقراطي الدكتور محمد سلهب، إنّ سببَ هذا الحوار، يعود في الدرجة الأولى الى مراحل سابقة لتأليف الحكومة. ويجب على اللبنانيين أن يستعيدوا ما أصرَّ عليه حينَها الحريري وتيّار «المستقبل»، بضرورة تأليف حكومة «تكنوقراط» أو حكومة «حيادية».
لكنّ عدمَ موافقة بقيّة الفرَقاء السياسيين، يضيف سلهَب، وإصرارَهم على حكومة سياسية، أوصلَنا اليوم إلى شللٍ حكوميّ، كانت نتيجته الطبيعية أن يبادر الحريري بحُسنِ نيّة، إلى تحريك «المياه الراكدة»، وفتحِ كوّةٍ في جدار الأزمة الداخلية، عبر إعلانه الاستعدادَ للحوار مع «حزب الله».
يقول سلهب لـ«الجمهورية» إنّه على المسيحيين الاطمئنان إلى نيّات الحريري، والدليل على ذلك، أنّه وافقَ على قانون انتخابيّ مختلط يجمَع بين النسبية والأكثرية، تماشياً مع إرادتهم بضرورة وضع قانون انتخابي، يكون باباً لإصلاح بعض الخَلل في التمثيل المسيحي، وتكريس قدر الإمكان، ركيزة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي.
تطبيق الطائف وإصلاحاته
وبالنسبة إلى موقع الرئاسة الأولى، يؤكّد سلهب أنّه على عكس ما يحاول البعض الإيحاء به، لا يزال هذا الموقع يتمتّع بقوّته ورمزيته، وليس أدلّ على ذلك إلّا رفض المجلس الدستوري الطعن في قرار التمديد، آخذاً في الاعتبار فراغ موقع الرئاسة الأولى، وبالتالي تجنّب الفراغ الكامل في المؤسسات الدستوريّة، وهو ما حذّر منه أيضاً الحريري، والذي على أساسه اتَّخَذ خيارَه الحاسم، بضرورة إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل أيّ أمر آخر.
ويضيف سلهب: «لا بدّ من النظر أيضاً إلى ما يحصل في مجلس الوزراء، فكلّ القرارات التي تصدر عن الحكومة تتطلب الإجماع وتوقيع جميع الوزراء، تبعاً للفراغ الرئاسي، ما يؤكّد أنّ موقعَ الرئاسة الأولى لا يزال محَصّناً، ويتمتّع بصلاحيات واسعة، لا يمكن لأيٍّ كان مهما كان موقعُه الدستوريّ تجاوزها».
لكنّ المشكلة الحقيقية، وفقَ سلهب، تكمن في تطبيق «إتّفاق الطائف» بكلّ بنودِه، مع بعض الإصلاحات الضرورية، ولعلّ أبرزَها:
1 – تأسيس مجلس الشيوخ للبحث في القضايا المصيرية والميثاقيّة، ليتفرّغ عندها مجلس النواب للبحث فقط في القضايا الدستورية والقانونية.
2 – تطبيق مبدأ اللامركزية الإدارية مع الحفاظ على وحدة الكيان اللبناني وسيادته، بما يتيح لكلّ المناطق بحث ومعالجة أوضاعها الإنمائية والاجتماعية الخاصة، ولعلّ تجربة مدينة زحلة في تأمين الطاقة الكهربائية خير دليل على صحّة ما تضمّنه «الطائف» في هذا الخصوص.
3 – إنشاء هيئة مراقبة الإنماء المتوازن، وتخطيط الدولة للدخول الى مناطق لا تتوافر فيها المقوّمات السياحية والخدماتية التي تُعتبَر من ركائز الاقتصاد اللبناني، عبر دعم قرضِ كفالات للمشاريع الصغيرة، بما يُخفّف من حدّة البطالة، ويؤمّن فرَص عمَل للشباب اللبنانيّ، ويسمح لنا بالحفاظ على نظامِنا الاقتصادي الحرّ، والمبادرة الفرديّة، وعنصر الابتكار الذي تتميّز به العقلية اللبنانية.
4 – فتحُ باب الانتساب الى الجيش اللبناني والقوى الامنية الشرعيّة، لمعالجة مشكلة تفَلّت وانتشار السلاح على الاراضي اللبنانية، بعدما ظهرَت بوضوح للطبقة السياسية، النتائج السلبية التي نتجَت عن إلغاء خدمة العَلم.
ثمّة من يقول إنّه يقع على عاتق المسيحيين اليوم الدور الأكبر والأهمّ في حفظ الكيان اللبناني، وتاريخهم الماضي والحديث فيه شواهد كثيرة على نجاحهم في تحمُّل هذا الدور، بصرفِ النظر عن الأسلوب والممارسة والتطبيق تبعاً لتعدّد المحطات والمفاصل التاريخية.
دورُهم اليوم يكمُن في حفظ التوازن بين المسلمين سُنّةً وشيعة، لا العكس!