IMLebanon

دور لبنان كمركز عالمي لحوار الأديان والثقافات

 

يطرح موضوع دور لبنان كمركز عالمي للحوار علامتي استفهام كبيرتين؛

الأولى هي: هل يحتاج العالم الى مركز دولي للحوار؟

والثانية هي: هل إنّ لبنان مؤهّل لأن يكون هذا المركز؟

في محاولة الإجابة على علامة الاستفهام الأولى، من المهم التوقف أمام المتغيرات التي وجدت طريقها الى معظم مجتمعات العالم. وذلك لأنه عندما اصطدم أهل هذه المجتمعات بهذه المتغيرات، انطلقوا في ردات فعل تتسم بالسلبية العنصرية أو الدينية أو الاثنين معاً.

اختصر هذه المتغيرات بالإشارة إلى ما يلي:

أولاً: يبلغ عدد مسلمي العالم 1.6 مليار إنسان. ثلث هؤلاء المسلمين (أي حوالي 600 مليون مسلم) يعيش في دول ومجتمعات غير إسلامية:

في أوروبة مع المسيحية الكاثوليكية

في الولايات المتحدة مع المسيحية الانجيلية

في الاتحاد السوفياتي مع المسيحية الارثوذكسية

في الصين مع البوذية

في الهند مع الهندوسية.

ومع كل هذه العقائد في دول أميركا الجنوبية وكندا واستراليا وافريقيا جنوب الصحراء.

يتضخّم هذا العدد من المسلمين مع الهجرة والتوالد. وخاصة في أوروبة. ومن شأن هذا الواقع ان يثير اضطرابات اجتماعية – وقد بدأ يثيرها بالفعل – اذا لم يترافق هذا الانتشار مع التربية على احترام التعدد والاختلاف بين الناس. وسوف أتناول هذا الأمر لاحقاً.

ثانياً: كانت أكثرية مسيحيي العالم، أي حوالي 85 بالمائة، حتى مطلع القرن التاسع عشر تتواجد في أوروبة والأميركيتين. أما الآن فإن ثلث المسيحيين يتواجدون في افريقيا وحدها حيث يوجد الاسلام وعقائد محلية أخرى. وثلث ثان في أميركا الجنوبية وآسيا، حيث يوجد الاسلام والبوذية والهندوسية، وعقائد محلية أخرى ايضاً.

فالمسيحية تنتشر جنوباً وشرقاً، ويضعها هذا الانتشار في حالة تماس مع ثقافات وديانات عديدة أخرى. وهنا ايضاً لا نستطيع ان نستبعد اضطراباً في العلاقات بين هذه الجماعات الدينية اذا لم يترافق هذا الانتشار مع احترام التعدد والاختلاف بين الناس.

لقد صدرت عن الأمم المتحدة مواثيق دولية تتعلق باحترام حقوق الانسان (1948) وحقوق الجماعات (1992) كذلك صدرت وثيقة عن منظمة اليونسكو تجمع بين الأمرين معاً لتشمل احترام الهويات الثقافية والدينية.

مع ذلك، لا نستطيع إغفال الوقائع السلبية التالية :

ارتفاع موجات الشعبوية الوطنية – الرافضة للآخر المختلف – في معظم دول أوروبة شرقاً وغرباً.

تسارع الخطوات في الهند لتحويل أكبر دولة ديمقراطية في العالم (1.5 مليار انسان) الى دولة هندوسية.

ارتفاع صوت الحركات الدينية في ميانمار وتايلند وسريلانكا رافعة شعارات الدولة البوذية.

وفي منطقتنا العربية مررنا بتجربة مشروع الدولة الاسلامية على يد جماعة ارهابية في العراق وسورية.. ورغم سقوط مشروع تلك الدولة، فان الثقافة التي قام عليها هذا المشروع الهجين لم تلفظ أنفاسها بعد.

يشجع على ذلك تسارع خطى مسيرة اسرائيل نحو التحول من كيان (صهيوني) علماني الى كيان (يهودي) ديني.

ثم إنه بعد انقسام السودان على خلفية عنصرية – دينية بين الشمال والجنوب، لا تزال مشاريع تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في العديد من الدول العربية الأخرى تجد من ينفخ في نار فتنتها تحريضاً أحياناً وابتزازاً أحياناً أخرى.

لا تنحصر هذه الظاهرة السلبية على المشرق العربي وحده. اننا نجدها في افريقيا ايضاً (افريقيا الوسطى ونيجيريا والصومال.. إلخ).

تشخص هذه الوقائع المختصرة جداً حالة المرض الذي تعاني منه مجتمعات عديدة في القارات الخمس. وهو مرض فقر دم احترام التعدد.

****

أنتقل الآن الى علامة الاستفهام الثانية وهي: هل إنّ لبنان الصغير جداً مؤهل لأن يضخ في هذا الجسم الكبير جداً ولو القليل من دم ثقافة احترام التنوع والاختلاف؟.

من المبالغة في الثقة بالنفس التجرؤ على الإجابة بنعم. وذلك لعدة أسباب:

أولاً لأننا نحتاج في لبنان الى تعزيز هذه الثقافة وتأصيلها. وثانياً لأننا نحتاج الى الارتفاع الى مستوى اخلاقياتها في السلوك الفردي والعام. وتشير هذه الحاجة الى ان ثمة هوة تحتاج الى تجسير أو الى ردم بين الرسالة والرسول.

صحيح ان البابا يوحنا بولس الثاني وصف لبنان بأنه رسالة، ولكن الصحيح ايضاً ان البابا وفي وثيقة الارشاد الرسولي حدد مواصفات الرسول.. وهي المواصفات التي نحتاج الى تعزيزها وتأصيلها. واذا ما رجعنا الى وثيقة الارشاد نجد اننا لا نزال نحتاج الى الكثير من التأهيل التربوي والثقافي حتى نكون رسلاً في مستوى الرسالة.

لقد سبقت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف الارشاد الرسولي. وقامت تلك الوثيقة هي أيضاً على أسس تجعل من لبنان رسالة. أختصر من معالم هذه الأسس اثنين فقط:

كان الدستور اللباني – قبل الطائف – يعطي رئيس الجمهورية – المسيحي – صلاحيات دستورية واسعة بحلّ البرلمان، وباختيار الوزراء وتسمية أحدهم رئيساً. وافق المسيحيون على التنازل عن هذه الصلاحيات تحقيقاً لمشاركة المسلمين في عملية اتخاذ القرارات الوطنية.

عقد مؤتمر الوفاق الوطني في الطائف في عام 1989. وهو عام بداية صعود الحركات الاسلامية التي تقول بأن المسلم لا يخضع لحكم غير المسلم، ولقوانين غير الشريعة. وعقد المؤتمر في الطائف التي تقع على كتف مكة، الموقع الأكثر قداسة لدى المسلمين. وهناك في ذلك المكان، وفي ذلك التاريخ، أكد المسلمون اللبنانيون التزامهم بأن يكون الرئيس وأن يبقى مسيحياً. وأكدوا على المناصفة في البرلمان والحكومة مع أخوانهم في الوطن من دون التوقف أمام المتغيرات الديموغرافية.

لم تنهِ هذه الصيغة الوفاقية الحرب الداخلية في لبنان فقط، ولكنها أرست الأسس من خلال هذا التوافق الوطني ليكون لبنان دولة رسالة. وجاء الارشاد الرسولي بعد ذلك ليحدد هذه الأسس بإعلانه:

«بودّي أن أشدد بالنسبة الى مسيحيي لبنان على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وأدعوهم الى اعتبار انضوائهم الى الثقافة العربية، التي أسهموا فيها إسهاماً كبيراً، وتبوّأوا فيها موقعاً مميزاً، أن يقيموا، هم وسائر مسيحيي البلدان العربية، حواراً صادقاً وعميقاً مع المسلمين. ان مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، مدعوّون الى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً انسانياً وأخلاقياً، وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى». يتمثل التحدي الذي يواجهه لبنان لحمل هذه الرسالة في انه مجتمع مجتمعات.

فهناك مجتمع يعاني من الخوف على المستقبل والمصير. وقد فاض هذا الشعور بالخوف بعد الأحداث الدامية والتدميرية التي ارتكبتها جماعات ارهابية على خلفية طائفية وعنصرية في بعض الدول العربية. ولا شيء يخيف أكثر من الخوف.

وهناك مجتمع ثانٍ انتقل من الحرمان الى من فائض القوة. وقد تضاعف هذا الفائض نتيجة ثقافة الثأر من التهميش الذي عاني من طويلاً.

وهناك مجتمع ثالث يعاني من تحميله أعباء ومسؤوليات أحداث ارهابية واجراءات تكفيرية إلغائية للآخر المختلف، ولكن لم يكن له فيها يد ولا رأي، بل انه رفع الصوت عالياً ضدها.

يحتاج مجتمع هذه المجتمعات الى لملمة شمله. فالوحدة الوطنية في كل مجتمع متعدد ليست عملاً منجزاً.. انها عمل يومي.. ومتواصل. ومن شأن مشروع اعتماد لبنان مركزاً دولياً للحوار أن يجعل من هذا المركز مركزاً وطنياً للحوار في الوقت ذاته.

ذلك ان صدقية العيش المشترك في لبنان تنعكس في إيجابياتها وفي سلبياتها على دول المنطقة العربية؛ وهي كلها دول متعددة الأديان والمذاهب والعناصر أيضاً. واذا سلمت هذه الدول من مخاطر مشروع التقسيم والتجزئة بالمحافظة على وحدة التنوع فانها ترتاح.. وتريح. ترتاح ذاتياً بالانصراف الى النمو والإنماء والتحديث، وتريح العالم من مخاطر التطرف وانعكاساته الارهابية وتنجيه من أعباء التهجير وانعكاساته العنصرية.

أخلص من ذلك الى التأكيد على الاجابتين التاليتين:

نعم، العالم يحتاج الى مركز دولي لحوار الثقافات والأديان –كما بيّنت- لانه عالم متعدد الأديان والثقافات. ولأن هذا التعدد أصبح متداخلاً ومتشابكاً، ولأنه يحتاج الى ثقافة تحول دون تحوّل هذا التداخل الى قنابل اجتماعية قابلة للإنفجار.. أو للتفجير.

ونعم، لبنان مؤهل لأن يكون هذا المركز لأنه رغم كل مساوئ الخلافات بين سياسييه، فان هذه الخلافات تقف خارج عتبة الحرية التي يتمسك بها الجميع. ويتنفس بها الجميع، وخارج عتبة الحرية الدينية أساساً التي وصفها البابا بنديكتوس السادس عشر في خطاب له القاه في القصر الجمهوري بأنها «تاج الحريات».

ان اعتماد لبنان مركزاً دولياً للحوار، يخدم لبنان وقضيته الوطنية. ويخدم العالم وقضيته الانسانية، وذلك باحترام حقوق وحريات الجماعات الدينية والثقافية والعنصرية المختلفة. فاحترام التعدد يحفظ لبنان وسلمه الأهلي، ويحفظ سلام المنطقة العربية، والعالم الأوسع.