Site icon IMLebanon

دور «الجنائية الدولية» في كشف مصير المخفيّين وإستعادة أملاك في إسرائيل

يكتسبُ لبنان فائدة كبيرة من إنضمامه الى المحكمة الجنائية الدولية، لكنه ما زال ممتنعاً عن ذلك، على رغم حماسته التاريخية للانضواء تحت المظلّة الأُممية. وفي وقتٍ يؤكّد متابعون أنّه كان لـ«عهد الوصاية»، دورٌ في منع توقيع نظام روما المنشئ للمحكمة، يُطرَح التساؤل اليوم، ما هو سبب استمرار لبنان في هذا الموقف؟

لن يكون الإنضمامُ الى المحكمة الجنائية الدولية مجرّدَ عملٍ احتفاليّ يُضاف الى لائحة الإتفاقيات الدولية التي تضع لبنان فوق المنابر الحقوقية، بل هو وسيلة عملية لمعالجة الكثير من القضايا الوطنية والإنسانية التي تتخطّى القدرة المحلية، أبرزها تقفّي مصير المفقودين والمخفيّين قسراً، الذين طالت معاناتهم، بلا أن تَعرف قضيّتهم أيّ حلّ ملموس، فضلاً عن قضية ترسيم الحدود الدولية وترتيب تداعيات قانونية على انتهاك السيادة الوطنية، وغيرها.

«عهد الوصاية»

منذ إنطلاقة المحكمة في العام 2002 لم يكفّ المعنيون بها والناشطون الحقوقيون عن تشجيع لبنان على الإنضمام الى المحكمة، لكن بلا طائل.

ويروي وزيرُ العدل السابق البروفسور ابراهيم نجار، أنّ «لبنان تردّد في الإنضمام الى نظام روما قبل عام 2005 خشية اعتباره مشجِّعاً على محاكمة أركان النظام السوري على إبادة حماة (1982).

وبعد إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان لم يكن الخيطُ الرفيع مع سوريا قد قُطع بعد، وعلى رغم ذلك أعلنتُ في مؤتمر الدوحة للمحكمة الجنائية عام 2010 استعدادَنا للإنضمام الى الجنائية، بعد ذلك طرحنا كلجنة تحديثَ القوانين موضوعَ الإنضمام، لكنّه لم يلقَ أيّ تجاوب في مجلس النواب، ثمّ طرحت جامعة الدول العربية قضية الرئيس السوداني عمر البشير (الذي تلاحقه المحكمة)، فاتخذ لبنان موقفاً غيرَ واضح من محاكمته». أمّا اليوم يضيف نجار، «فلا أحد يتحدّث عن الموضوع ولم تضعه أيٌّ من الحكومات ضمن أولوياتها».

«حزب الله» وحرب سوريا؟

في المقابل، تؤكّد مصادر متابعة، بأنّ اطرافاً سياسية عدّة وفي طليعتها «حزب الله» باتت تضغط اليوم في سبيل منع انضمام لبنان الى الجنائية الدولية، خشية ملاحقتها على دورها في المعارك الدائرة في سوريا وما قد تتضمنّه من جرائم ضدّ الإنسانية وحربٍ وإبادة.

في المقابل، ينفي نوّاب من «قوى 8 آذار» وجودَ هذه الضغوط، في وقتٍ يشكّك بعضهم بفعالية المحاكم الدولية وحيادها، معتبرين انّ عدمَ الإنضمام اليها لا يقدّم أو يؤخّر في مصير القضايا اللبنانية.

ووسط هذا التجاذب، ماذا تقدّم المحكمة لقضية المخفيّين قسراً التي شبعت من دهاليز السياسة المحلّية؟ أدرجت الفقرة (ط) من المادة 7 من نظام روما، الإخفاءَ القسري، في إطار الجرائم ضدّ الإنسانية، وأعطته توصيفاً ينطبق بدقّة على حالات الإخفاء الموثّقة لدى الجمعيات الأهلية في لبنان، واعتبرت أنّه «إلقاء القبض على أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها أو بسكوتها، ثمّ رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حرّيتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم، بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة».

وعلى رغم صعوبة هذا الملف فإنّ اصحاب الإختصاص يؤكّدون أنه لا يمكن تجاهل الإمكانات البشرية والتكنولوجية للمحكمة الجنائية والقدرة القانونية لاستدعاء مَن تشاء والتحقيق مع كبار القادة ومحاكمتهم، ما يوجب على الأقل محاولة الإفادة منها لجلاء مصير المخفيّين وحسم وضعهم القانوني وإقرار التعويضات اللازمة لهم ولذويهم.

مرورُ الزمن؟

وفي السياق، يؤكّد الإختصاصي في القانون الجنائي الدولي المحامي وهبي عيّاش لـ»الجمهورية» أنّ «شرط وقوع الجرم بعد نشوء المحكمة، الذي يفرضه نظام روما، لا يطبَّق على المخفيّين قسراً الذين وردت معلومات عن استمرار إخفائهم، ذلك، باعتبار أنهم ضحايا جريمة مستمرة متمادية لم يسرِ مرورُ الزمن عليها».

أما في ما يتعلّق بمن اشتُبه بإخفائه لدى جهات لبنانية إبّان الحرب الداخلية، يؤكّد عيّاش انه «لم يعد ممكناً ملاحقة المسؤولين عن ذلك، ليس بسبب العفو العام، باعتبار أنّ المحاكم الدولية لا تأخذ بالعفو، إنما لأنه لم يعد لدى هذه الجهات حسب ما يظهره الواقع، أيّ مخفيّين، وبالتالي فإنّ الإخفاء إن حصل لا يتصف بصفة الإستمرار وقد انتهت عناصره قبل نشوء «الجنائية الدولية».

الحدود… والفلسطينيون

وكما بالنسبة للإخفاء القسري، يسمح نظامُ روما بالمطالبة بترسيم الحدود، ما يُتيح للبنان وضعَ حدٍّ لانتهاك سيادته وسرقة الطاقة والمياه والتربة والإعتداء على المواطنين. ويرى عياش أنّ مجرد انتماء لبنان الى المحكمة، يشكّل رادعاً معنوياً في وجه جيرانه، كما يكون للحكم على الجهة المعتدية مفعولٌ إنشائي وإعلاني، يسمح بترتيب تعويضات.

وأبعد من ذلك تدخل جرائمُ الإبعاد والتهجير ونقل الجماعات والشعوب بصورة غير شرعية، في اختصاص المحكمة، وهنا يوضح عياش أنّ انضمامَ لبنان يسمح له بطلب «المراصفة» (التدخل) في القضايا التي قد ترفعها فلسطين في وجه إسرائيل بتهجير شعبها، ليس هذا وحسب بل من شأن المراصفة هذه أن تفسح في المجال للبنان بالمطالبة للمرة الاولى باسترجاع أملاك الكثير من العائلات اللبنانية في فلسطين والتعويض عليهم، فضلاً عن المطالبة قضائياً للمرة الأولى بإعادة اللاجئين الفلسطينيين الى أرضهم.

سيادةُ الدول

في ظلّ هذا التفاؤل، يُراعي نظامُ روما مبدأ سيادة الدول في اشتراط الإنضمام الطوعي اليه، وفي الإمتناع عن ملاحقة القضايا إلّا بعد التأكد من أنّ الدولة المعنية لا ترغب بملاحقتها عبر قضائها الوطني، أو هي عاجزة عن ذلك، أو أنّ ملاحقتها غير كافية أو غير جدية أو غير شفافة، عندها يباشر المدعي العام تحقيقاته بناءً لطلب إحدى الدول المنضمّة او لطلب الامم المتحدة أو تلقائياً، كما حصل بالنسبة إلى أريتريا والسودان وبوليفا وكولومبيا.

في المقابل، يؤكّد متابعون أنّ هناك اتجاهاً دولياً لجعل صلاحية «الجنائية» شاملة وملزمة.

وفي هذا السياق يلفت عياش الى اقتراحٍٍ كان تقدّم به عام 2010 يقضي بوجوب شمولِ صلاحية المحكمة كلَّ الدول المنضوية تحت راية الأمم المتحدة، واعتبار انضوائها هذا قبولاً مسبَقاً بالكيانات الدولية على غرار القبول بمنظّمات «الفاو» و«التجارة» و«الصحّة» العالميّتَين و«البنك الدولي» وغيرها، معتبراً أنّ خلاف ذلك ينفي الموجب التأسيسي للمحكمة ككيانٍ وحيد يحمي الأمن والسلم العالميَين.

وقد أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان خلال مداخلة في مؤتمر villa Garibaldi في روما عام 2007، عن النية في درس هذا الإقتراح. ويعلّق عياش آمالاً على فرصة تعديل نظام روما المرتقَب سنة 2017 إثر مرور 7 سنوات على بدء عمل المحكمة.

الضغوطُ الدولية

في المقابل، شهد التاريخُ القصير للمحكمة تدخلاتٍ سياسية وضغوطاً عدّة، لملاحقة بعض القضايا والإمتناع عن ملاحقة غيرها، ما أوحى بأنّ العدالة الدولية إستنسابية ودَفع المراقبين في العالم الى تسمية «الجنائية» بمحكمة أفريقيا و«العالم الثالث»، باعتبار أنّها لم تلاحق الى الآن أيّ قضية ارتكبتها دولُ الغرب في العراق وأفغانستان وفي بعض السجون العسكرية الأميركية وغيرها، فضلاً عن أنّ منطق القوة يسمح بتملّص الدول الفاعلة من نظام روما.

وفي هذا الصدد، يستبعد نجار من جهته «قوننةَ النظام الدولي، فلا يوجد في التاريخ محكمةٌ دولية ملزِمة للدول غير المنتسبة»، وهنا يذكّر نجار بالحكم الذي فاز به لبنان أخيراً من محكمة العدل الدولية ضدّ إسرائيل والذي قضى بالتعويض عن الأضرار الناجمة من تسرّب النفط الى السواحل اللبنانية جراء قصف محطة كهرباء الجيّة في حرب تموز 2006.

قائلاً: «الى الآن لا أحدَ يستطيع أن يُلزمَ إسرائيل تسديدَ التعويض، لأنها لا تنتمي الى النظام الدولي». ويرى أنّ «نظامَ العدالة الدولية قائمٌ على الطوعية ولذلك الولايات المتّحدة لم تنضم خشية ملاحقة تدخلها في فييتنام وأفغانستان، ويؤكّد أنْ لا سلطة تسمو سيادة الدولة على إقليمها الجغرافي ويبقى المرجع الوحيد لطلب التدخل القَسري هو مجلسُ الامن تحت الفصل السابع». ويخلص الى القول إنّ «العدالة الدولية بدأت تكتسب الكثير من الهالة الإعتبارية ولكن ما زالت تنقصها صفة الإلزام».

مَن يَقبل بتوقيف المجرمين؟

ولا يستوفي موضوع المحكمة الجنائية حقّه بلا التطرّق الى المشكلة في إيجاد دول تقبل بتوقيف المطلوبين وحبس المحكومين، وفي هذا الإطار يؤكد عياش أنّ مفاوضات كثيرة انطلقت أخيراً لحلّ هذه المسألة، فضلاً عن مسألة قبول بعض الدول منح اللجوء للضحايا والشهود المهدَّدين، بعدما تعرّض عددٌ من الشهود في محكمة يوغوسلافيا السابقة للقتل والتهديد.

ووسط التفاؤل والتشاؤم يتصاعد تيارٌ حقوقي واقعي مؤكداً أنّ العدالة الدولية ماضية في التطوّر سريعاً، وأنّ ما وصلت اليه اليوم لم يكن مُتاحاً قبل سنوات قليلة ويؤكّد على أنّ نشوءَ المحكمة الجنائية الدولية في ذاته انتصارٌ لمنطق العدالة بإقرارها مبدأ محاكمة القادة والرؤساء الكبار، مع أخذها في الإعتبار كلّ نقاط الضعف التي اعترَت المحاكم الدولية الخاصة ومعالجتها، خصوصاً لجهة التعويض للضحايا، وحماية حقوق الدفاع والشهود.

ويردِّد المعنيون في المحكمة بأنّ العبرة تبقى في رفع القضية اليها، لأنّه بعد ذلك تبقى السياسة خارجَ أسوار لاهاي، ليسودَ القانون وحده. ويتمسّك هؤلاء بنموذج فلسطين، حيث أرسلت المحكمة أخيراً بعثة تحقيق الى اسرائيل، للوقوف على حقيقة الجرائم التي ادّعي بها على خلفية حصار غزّة.

واجبُ لبنان

يتّضح أنّ ما زال أمام العالم مسيرة طويلة وشائكة للوصول الى العدالة الفاعلة، لكن هذا لا يعني أنّ على لبنان انتظار العدالة المطلَقة لا بل عليه التشبّث بحقوقه والإفادة قدرَ المستطاع من كيانٍ قضائي ذي صلاحية واسعة، فيؤسّس مع غيره من الدول لمساحة أكبر للعدالة، في وجه منطق القوة التي تفوق قدراته.

كادر

– باشرت المحكمة عملَها عام 2002 لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضدّ الإنسانية والحرب والإبادة التي تقع بعد نشوئها، إذا كان المرتكبون أو الضحايا من رعايا الدول الموقِّعة على الإتفاقية، أو إذا رضيت الدولة بصلاحية المحكمة للنظر في قضية محدَّدة ترفعها إليها، مع الإحتفاظ بصلاحية المحكمة في التحرّك بطلب من مجلس الأمن تحت الفصل السابع.

– ككلّ المحاكم الدولية لا مرورَ زمن أمام الجنائية ولا حصانةَ للرؤساء والقادة الكبار، وهي تستطيع طلبَ مساندة مجلس الامن لتوقيف المطلوبين كما حصل أخيراً في قضية رئيس السودان عمر البشير.

– لاحقت المحكمة جرائم إرتكبتها أنظمةٌ وجماعاتٌ مسلَّحة في كلٍّ من جورجيا وكولومبيا وكوريا واندوراس وبوليفيا وأريتريا وكينيا ونيجيريا وافريقيا الوسطى والكونغو وساحل العاج والسودان وافغانستان وتيمور الشرقية.

– ولاحقت العشرات من رؤساء هذه الدول والقادة العسكريين الكبار فيها، ومنهم البشير والرئيس الكيني اوهورو كينياتا الذي بُرّئ ولوحق نائبُه، فضلاً عن ملاحقة سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم الليبي المخلوع قبل رفع يدها لاحقاً لبدء السلطات المحلية محاكمته.

– دولٌ عدة امتنعت عن الإنضمام اليها ومنها الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل، فيما بات عددُ المنضمين 137 دولة، آخرهم مالطا وكوستاريكا، أما عربياً فقد انضمت الاردن وتونس، وفلسطين التي أثارت جدلاً على مستوى الصفة باعتبارها دولة غير مكتملة الحقوق.

– خلافاً للمحاكم الدولية الخاصة بـ (لبنان، تيمور الشرقية، نورنبورغ، طوكيو، رواندا، سيراليون، ليبيريا، ويوغوسلافيا السابقة)، التي تنتهي مهماتها بانتهاء القضية التي أُسنِدت اليها، فإنّ «الجنائية» هي المحكمة الدولية الوحيدة الدائمة، والنموذج الأكثر تطوّراً، مند نشوء أولى هذه المحاكم في نورنبرغ عام 1945 لملاحقة القادة النازيين.