إنقاذ لبنان من دوامة العدوان والقتل والخراب، يتطلب الكثير من الحكمة، والكثير من الجرأة، والكثير الكثير من الواقعية في العودة إلى كنف الدولة.
رغم مآسي المرحلة العصيبة، والأخطار المحدقة بلبنان واللبنانيين، كل اللبنانيين، مازالت حالة الإنكار تُهيمن على خطاب البعض، فيما البعض الآخر غارق في حسابات حزبية، وأولويات شخصية، تستولد المزيد من الخلافات والتباعد في الطروحات والمواقف، في وقت أشد ما يكون فيه الوطن إلى تصليب الجبهة الداخلية، وتنشيط قنوات الحوار بين الأطراف السياسية، بهدف البحث والتوصل إلى خطوات وحلول مؤقتة، تخفف من أوجاع الناس في هذه النكبة التي حلّت بالبلد.
كان من الممكن أن يكون البيان الثلاثي الذي أعلنه الرئيس نجيب ميقاتي من عين التينة، بحضور الرئيس نبيه برّي والزعيم وليد جنبلاط، الخطوة الأولى، الجدّية والمسؤولة، في رحلة الألف ميل التي من شأنها تسريع مفاوضات وقف النار، وفتح الباب أمام الإنتخابات الرئاسية، وبالتالي إعادة الروح إلى شرايين الدولة المشلولة، بسبب الإنقسامات الداخلية، وتعطيل المؤسسات الدستورية.
ولكن «النيران الصديقة»، وخاصة من حزب لله، طوّقت أجواء التفاؤل التي أشاعها البيان الثلاثي، وعطلت مفاعيل الرسالة التي وجهها إلى الخارج، لإستدراج عروض المفاوضات، والعمل على إيقاف آلة الدمار الإسرائيلية، وتفعيل المواقف العربية والغربية المتعاطفة مع لبنان، وتأكيد تمسك الحكومة اللبنانية بالقرار الأممي ١٧٠١.
وزادت الأمور تعقيداً عندما إنبرى رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، ليعلن إستعداد طهران للتفاوض عن لبنان، للتوصل إلى وقف الحرب، متجاوزاً كل القوانين والأعراف الدولية. وبدا وكأن لبنان بلد يدور في الفلك الإيراني، وجزءاً من جبهة الممانعة.
وكانت النتيجة أن توقفت المفاوضات، وبقيت مسألة إنتخاب رئيس توافقي مُعلّقة في عالم الغيب، وعادت الأمور إلى نقطة الصفر، فيما تصاعد العدوان الاسرائيلي على مختلف المناطق في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وصولاً إلى عمليات الإغتيال في بيروت.
وفي الوقت الذي كانت عواصم القرار الدولي تبحث متطلبات تكليف الجيش اللبناني بمسؤوليات الأمن في الجنوب، في إطار الترتيبات المتوقعة لوقف العدوان،
فوجئ اللبنانيون بحملة ضد المؤسسة العسكرية على خلفية العملية الإسرائيلية في البترون، رغم الإشكالية التي أحاطت بدور الكابتن البحري المخطوف، ونفي علاقته بحزب لله.
ثمة من يعتقد أن تلك الحملة المستغربة، والتي شارك في بعض جوانبها حزب لله، كشفت عن إستمرار الحزب في معارضته وصول مرشح توافقي، مثل قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى رئاسة الجمهورية، والتمسك بعدم إجراء الإنتخابات الرئاسية قبل وقف إطلاق النار، رغم كل ما تنطوي عليه هذه المرحلة الصعبة من مخاطر، في ظل الفراغ الرئاسي. الأمر الذي أساء إلى ما تبقى من هيبة السلطة، بعد إظهار البلد في ذروة إنقساماته، في مرحلة من أصعب المراحل التي عرفها لبنان في تاريخه الإستقلالي.
لكن تلك الحملة على الجيش، التي أثارت موجة إستهجان بين اللبنانيين، لن تؤثر في الرهانات الوطنية الداخلية، وما يقابلها من حرص خارجي أيضاَ، على أهمية دور الجيش اللبناني في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في الجنوب، بالتعاون مع قوات اليونيفيل، لإعادة الأمن والإستقرار وتشجيع الأهالي على العودة إلى قراهم، وإطلاق ورشة الإعمار.
ما يتردد حالياً في واشنطن عن تحقيق «تقدم ملموس» في مفاوضات وقف إطلاق النار في الحرب على لبنان، يُحمّل الأطراف اللبنانية مسؤولية مضاعفة في دعم الجيش الوطني، وتعزيز الجبهة الداخلية لمواجهة الضغوط الإسرائيلية في فرض شروط الهدنة، والتخلي عن المواقف المتشنجة، وأساليب تصفية الحسابات، والعمل معاً لإيقاف هذه الحرب الإجرامية بحق البشر والحجر، بما يضع حداً لهستيريا العدوان الإسرائيلي الوحشي.
مرة أخرى، لبنان على مفترق طرق وجودي: أما تسليم كل القوى السياسية، وفي مقدمتها حزب لله، بالعودة إلى الدولة، وما تعنيه من إنتظام في الحياة السياسية والدستورية، وإما الإستسلام لحالة الفشل والعجز التي تلف السلطة الشرعية منذ فترة، وما قد ينجم عنها من فوضى عارمة في البلاد، هي أخطر بكثير من مجرد حرب داخلية،
لأنها تهدد الصيغة والكيان.