من الواضح أنّه لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة حتى ولو تحت مصطلحات مختلفة، كمثل «عودة الهدوء» أو عبارات مشابهة، فإنّ المنطقة برمتها، وليس فقط الساحة الفلسطينية، ستباشر الدخول في مرحلة جديدة يجري رسمها منذ الآن في غرف التفاوض المغلقة.
الإنطباع الغالب أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يتنازعه اتجاهان متناقضان ما بين الذهاب الى وقف إطلاق النار، حيث تضغط الادارة الأميركية بقوة في هذا الاتجاه، أو الاستمرار في القتال، والذي يدفع اليمين الأسرائيلي المتطرّف في اتجاهه مهدّداً بالاستقالة من الحكومة.
وتبدي واشنطن خشيتها من المماطلة الإسرائيلية بسبب الاقتراب من موعد شهر رمضان، حيث تصبح الأوضاع مرشحة لمزيد من الالتهاب، والتي ستتمدّد على الأرجح في اتجاه الضفة الغربية، كما ستؤدي الى تحرّك الساحات العربية.
لكن نتنياهو، والذي بدأ يبدي بعض التجاوب تحت الضغوط الأميركية، وهو ما تظهّر في اجتماع باريس، يشعر بأنّ الشارع الإسرائيلي لا يزال يميل الى اتجاه الاستمرار في الحرب كونه لم يخرج بعد من صدمة السابع من أكتوبر، خصوصاً أنّه فشل في انتزاع صورة النصر عبر تحقيق الأهداف التي رفعها مع إطلاق آلة الحرب. فلم ينجح الجيش الاسرائيلي في الوصول الى يحيى السنوار أو محمد الضيف أو أي مسؤول عسكري بارز في حركة «حماس»، وكذلك الفشل في «تحرير» ولو محتجز إسرائيلي واحد بالقوة العسكرية. كما أنّ نتنياهو لم ينجح في القضاء على «حماس»، وهو لا يزال يعطي وعوده في هذا الشأن فيما المعارك مستمرة والصواريخ تُطلق حتى من شمال غزة.
ومنذ بداية الحرب أطلقت حركة «حماس» من غزة نحو 9 آلاف صاروخ، كذلك أُطلق من جنوب لبنان وسوريا نحو 2000 صاروخ. كما شرّدت اسرائيل نحو مليون وسبعمئة ألف فلسطيني من منازلهم في غزة من أصل مليونين و300 ألف فلسطيني، ولكن من دون أن يؤدي ذلك الى دفعهم للهروب الى خارج غزة.
ولأنّ هول صدمة سبعة أكتوبر ما زال يهزّ عمق الكيان الإسرائيلي، فإنّ الجنوح نحو الإستمرار في الحرب لتحقيق أحد الأهداف الثلاثة المعلنة يحظى بتأييد غالبية الاسرائيليين من يمين أو يسار على حدّ سواء. فعلى سبيل المثال، فإنّ الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ والذي ينتمي الى اليسار، يؤيّد إستمرار الحرب.
في الواقع لا أحد في إسرائيل يجاهر بوقف الحرب. أما رموز المعارضة فيطالبون بإجراء انتخابات ولو مع استمرار الحرب، لعدم أهلية الحكومة في إدارة البلاد. وحتى نقطة الضعف والمتمثلة بالعمل على إطلاق الأسرى الاسرائيليين، فإنّ تحركات الداعين اليها لا تزال ضعيفة وخجولة ولا تحظى بأولوية الشارع.
لكن الضغوط الأميركية تتصاعد وتترافق مع ضغوط أوروبية ومنظمات دولية. وقد دخلت السعودية على الخط مع إعلانها أنّ التطبيع مع إسرائيل يجب أن يسبقه وقف الحرب والاعتراف بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وتدرك إسرائيل أنّ اكتمال انخراطها في المنطقة لن يتحقق إلاّ مع حصول التطبيع مع السعودية، وإلاّ ستصبح كل خطواتها التطبيعية التي حصلت مهدّدة. ولذلك دشّن وزير الخارجية الأميركي جولته الخامسة على المنطقة منذ اندلاع الحرب من البوابة السعودية. فهو أراد التلويح بـ»الجزرة» السعودية.
وما لفت أنّ الوسائل الإعلامية المحسوبة على واشنطن بدأت تبرز ارتفاع احتمالات قرب إعلان وقف إطلاق النار، والذي سيطاول الجبهة اللبنانية أيضاً.
ما من شك أنّ الى جانب الورشة التفاوضية القائمة حول غزة، هنالك ورشة تفاوضية جانبية تحصل في الكواليس وتشمل مستقبل الوضع في جنوب لبنان.لا بل أنّ هنالك خطوات عملانية ميدانية تجري بصمت وهدوء على الجانبين اللبناني والإسرائيلي . ووفق أوساط مطلعة، فإنّ واشنطن تبدو راضية على الخطوات التي تمّ التفاهم حولها مع «حزب الله»، والتي تأتي في إطار إنجاز التحضيرات المطلوبة لتكون المسائل جاهزة لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار.
ووفق الأوساط نفسها، فإنّ التفاوض القائم مع «حزب الله» لا يحصل وفق الآلية نفسها التي اتُبعت خلال مفاوضات الترسيم البحري. بل ثمة آلية جديدة مضبوطة أكثر. وتشير الأوساط عينها الى تطورات ميدانية حصلت بعيداً من التداول الإعلامي، كمثل تراجع عناصر «الرضوان» الى الخطوط الخلفية، في وقت سُجِّل سحب بعض القوات الإسرائيلية النوعية من المناطق المتاخمة للحدود.
ربما هذا ما دفع بوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه الى التساؤل بتعجب أمام المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته لبيروت، عن السبب الذي يجعل «حزب الله» واثقاً من عدم انزلاق الوضع في جنوب لبنان في اتجاه الحرب المفتوحة.
ويتمّ التداول في أنّ المفاوضات وصلت الى حدود البحث في كثير من التفاصيل التي تُعتبر حساسة، والمتعلقة بمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701. وعلى سبيل المثال، تخصيص أفواج من الجيش اللبناني تقارب الـ12 ألف ضابط وجندي منضوية في أربعة ألوية وفوجين، للانتشار في المنطقة الحدودية ومراقبة تنفيذ الاتفاق بمنع المظاهر المسلحة في البلدات والقرى جنوب خط الليطاني، لكن من دون الذهاب الى البحث في باطن الأرض.
على أن تشمل المرحلة التالية تثبيت الحدود اللبنانية وإنهاء الخروقات الاسرائيلية باستثناء مزارع شبعا والتي ستخضع لاتفاق آخر برعاية الأمم المتحدة.
كذلك أن يشمل تطبيق القرار 1701 اسرائيل التي عليها التوقف عن خرق الاتفاق، وهو ما لم تلتزم به منذ تاريخ إقراره بخلاف لبنان. وهنا يأتي دور أبراج المراقبة البريطانية، والتي ستتكفّل بالسهرعلى منع أي خروقات من الجانبين اللبناني والإسرائيلي .
وتشير الأوساط الديبلوماسية نفسها الى مرونة «حزب الله» إزاء المفاوضات الحاصلة، وهي تبدو راضية عن المسار الحاصل، خصوصاً أنّ ما يحصل هو ترتيب تسوية من المفترض أن تؤمّن الاستقرار لعشرين سنة أو حتى أكثر. أي أن تخدم زمنياً أكثر مما خدمته الصيغة التي طُبّقت عام 2006.
الوزير الفرنسي ركّز خلال وجوده في بيروت على نقاط ثلاث:
1 ـ التأكيد على تطبيق القرار 1701.
2 ـ دور قوات الطوارئ الدولية ومهماتها.
3 ـ دور الجيش اللبناني ومهمّاته المستقبلية واستعداد فرنسا للمساعدة في تعزيزه بالعتاد وأيضاً مساعدته لزيادة عديده عبر تطويع نحو 7 آلاف عنصر جديد، لكي يصبح قادراً على تأمين الدور المطلوب منه.
الواضح أنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة الجيش اللبناني ليس فقط على الحدود، بل على مستوى الساحة اللبنانية ككل.
وعلى هذا الأساس، عاودت اللجنة الخماسية تحركها، خصوصاً أنّ الملف الرئاسي في حاجة الى مناخ إقليمي ملائم، ولكنه في الوقت نفسه لن يكون مربوطاً بملف تطبيق القرار 1701. أو بمعنى أوضح، لن يخضع لأي صفقة في هذا المجال. ففي الأساس فإنّ التوصيف السياسي والديبلوماسي للملف الجنوبي له علاقة بالعناوين الإقليمية العريضة، أي أنّه مصنّف كخط تماس إيراني ـ إسرائيلي، ما يعني أنّ مفرداته ومفاهيمه مختلفة تماماً عن ملف إعادة تكوين السلطة في لبنان.
ولأنّ التحضيرات جارية على قدم وساق، أكان حول التسوية السياسية في غزة أو تلك المتعلقة بجنوب لبنان، فإنّ من البديهي أن تقوم اللجنة الخماسية بالتحمية المطلوبة لتكون جاهزة عندما يحين الوقت، والمقصود هنا عندما يتوقف إطلاق النار في غزة.
وربما هذا ما يفسّر «الاستنفار» السعودي على مستوى الخماسية، لكن من دون إطلاق صافرة الانطلاق. والأهم انّه ربما لذلك تتمسك السفيرة الأميركية بسلوك متحفظ مغلف بقناع صارم، وهو ما يعني أنّ الوقت لم يحن بعد ولو أنّه قد يأتي قريبا جداً.
ولا تبدو الصورة في حاجة الى كثير من التمحيص للإستنتاج أنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة الجيش، إن في الجنوب أو في الداخل اللبناني. فهنالك تسوية كبرى تحمل عناوين حسّاسة ومهمّة سيتولّى الجيش تأمين تطبيقها وعلى قاعدة التوافق السياسي الداخلي، مع إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة وإعادة إستنهاض الإقتصاد. ولم يكن تفصيلاً ما أورده موقع «أكسيوس» الأميركي حول مساعدات إقتصادية للبنان الى جانب تطبيق القرار 1701 في الجنوب. ويبدو أنّ العواصم الأوروبية ستعاود عقد مؤتمراتها لمساعدة لبنان وإعادة إطلاق عجلته الإقتصادية، لكن بعد إنجاز التسويات الجاري ترتيبها.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الاستقبال الشعبي الكبير الجاري تحضيره للرئيس سعد الحريري في ذكرى اغتيال والده، وهو الذي أقفل كل خطوطه الهاتفية منذ نحو سنة، واعتمد خطاً هاتفياً واحداً بقي سرّياً ولم يعطه سوى لعدد قليل من الاشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. والرسالة تبدو واضحة، وقد قرأها الرئيس نبيه بري ومفادها أنّ الفراغ الحاصل في الساحة السنّية لا أحد قادراً على ملئه سوى سعد الحريري. والمقصود هنا رئاسة الحكومة للمرحلة المقبلة. ذلك أنّ الفراغ الحاصل في الساحة السنّية سيشكّل إغراءً لجميع الطامحين للعبث مستقبلاً، بدءاً من مرحلة ما بعد غزة، والوهج الذي باتت تحظى به حركة «حماس»، ومروراً بخريطة النفوذ الإقليمية الجديدة، والتي ستدفع الى ابتكار ادوات جديدة للحركة في لبنان. وتكفي الإشارة مثلاً الى المشهد الجديد الجاري رسمه لسوريا مع انسحاب الجيش الأميركي من جهة والخبراء الإيرانيين من جهة، على ان تتولّى موسكو ملء بعض هذا الفراغ الى جانب توسيع مساحة النفوذ التركي في الشمال السوري. ولا حاجة للإشارة الى التجاور لا بل التداخل الحاصل بين الشمال السوري والشمال اللبناني.
ومن هنا يمكن تفسير الحشد الشعبي الجاري تحضيره للحريري، وفي الوقت نفسه إبراز علاقته المميزة بروسيا وأيضاً بتركيا.
ويأتي ذلك في وقت يتردّد أنّ السعودية تبحث عن إسم قادر على ترؤس الحكومة المقبلة والتي ستحمل مهمّات إنقاذية، على أن تكون لديها خبرة اقتصادية وقادرة وراغبة في الوقت نفسه على تركيز نفسها في الوسط السنّي.
ولذلك أيضاً باشر «التيار الوطني الحر» بتنفيذ استدارة سياسية ولو بصعوبة بالغة، وفي محاولة مواكبة التحولات الجارية. وكان لافتاً إكثار النائب جبران باسيل من «تحرّشه» بالساحة السنّية كمثل زيارات طرابلس أو الزيارات الى الهيئات الروحية. وأيضاً ملاقاة النائب ألان عون من زاوية أخرى هي زاوية سعد الحريري. غالب الظن أنّها نصيحة الرئيس ميشال عون خصوصاً أنّ مرحلة «اتفاق مار مخايل» تمّ طيها فعلياً. فـ»حزب الله» الذي كان عوّل خلال المرحلة الماضية على إمكانية إعادة إصلاح الوضع، ولو وفق صيغة جديدة، بات اليوم على اقتناع بأنّ «التيار الوطني الحر» ينفّذ استدارة لها أبعادها وخلفياتها المرتبطة بالمشهد الجديد للمنطقة، ولو أنّ التموضع الجديد لن يعني أبداً الخلاف والتنازع، بل السعي لإيجاد مقعد في الصورة الجديدة. وفي المناسبة قد تكون لـ»حزب الله» أيضاً قراءته الجديدة.
وفي المحصلة، فإنّ المرحلة الجديدة الجاري التحضير لها، إن في فلسطين أو المنطقة أو لبنان، تنتظر صافرة الانطلاق مع سكوت الحرب في غزة وليس قبل ذلك.