Site icon IMLebanon

جذور الثقافة والحرية في لبنان

ديفيد هيرست David Hirst صحافي بريطاني يقيم في لبنان منذ اوائل الستينات وهو مقتدر ومتابع لاحداث المنطقة، وخصوصاً القضية الفلسطينية، وأظن انه بين الصحافيين الاجانب يمكن اعتباره من الاكثر أمانة ومعرفة.

وضع كتابًا بالإنكليزية نشر عام 2010 عنوانه: “احذروا البلدان الصغيرة. لبنان مسرح صراعات الشرق الاوسط Beware of Small States. Lebanon the Battleground of the Middle East, Fisher &Fouler.”.

يقول المؤلف، وذلك بعد الانسحاب السوري من لبنان: “في منطقة حيث تتكرس الملكيات بالوراثة أو يسود حكم الحزب الواحد في جمهوريات استخبارية عسكرية، كان لبنان يحظى بنظام ديموقراطي، مهما بلغت مساوئه، كان يميزه عن بقية بلدان المنطقة. وقد حاول نظام البعث السوري – ربما النظام الاكثر قسوة بين الديكتاتوريات العربية – خنق نفس الحرية في لبنان. وبعد الانسحاب السوري تكشفت رغبة الحرية لدى اللبنانيين وعبروا عن رفضهم للحكم السوري”. (ص197)

عام 2010 كان عام عودة العرب الى لبنان، فنفس الحرية استعيد، والازمة المالية العالمية جمدت حماسة هؤلاء لزيارة الغرب واعتماد مصارفه فاقبلوا هذا البلد. وعن هذه العودة يقول ديفيد هيرست: “أين يلقى العرب مستوى الحرية الشخصية الذي يجدونه في لبنان، والقدرة على التعبير، والطقس الجميل، والخدمات الطبية المتقدمة، والجامعات المحترمة، والمطبخ المتنوع؟”.

يعاني لبنان اليوم على كل صعيد. أوضاعه الاقتصادية في ترد، وأوضاعه المالية تحتاج الى العناية، ونشاطه السياسي مجمد، ومشاريع البنية التحتية متأخرة، والراحة النفسية حيال تعاليم “داعش”، ربما، وهذا من اخطر الامور، لا تأكيد لاستمرارها.

ماذا يبقى من زوايا النور في العتمة المطبقة على آمال اللبنانيين ومعيشتهم؟

يبقى نفس التعلق بالعلم والثقافة والانفتاح والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة هذه السنة.

الجامعة الاميركية تحتفل بعيدها الـ150 وتتمتع بسمعة مميزة في الشرق الاوسط، ولها رئيس جديد تعكس توجهاته جذوره اللبنانية، فهو مقبل على تطوير الجامعة وفروعها ومستشفاها.

تبقى الجامعة الاميركية مقصد الطلاب اللبنانيين وفي حال استقرار الاوضاع الامنية وتلاشي الاحتقان السياسي، يمكن ان تعود مقصد الطلاب من مختلف البلدان العربية والشرق الاوسطية.

وللذكرى نشير الى ان دانيال بلس حينما جاء الى لبنان لتأسيس جامعة ذات جذور دينية بروتستنتية، سئل لماذا تقدم على هذا العمل، فأجاب: اني استبق اليسوعيين الذين سيؤسسون جامعتهم في أقرب وقت.

وهكذا كان. فاليسوعيون اسسوا جامعتهم عام 1875 أي منذ 141 سنة، وهنالك لافتة مرفوعة على مدخل كلية الحقوق في شارع هوفلان تشير الى الاحتفال بانقضاء 140 سنة على تأسيس الجامعة اليسوعية.

قبل تأسيس الجامعتين، تأسست كلية بيروت للبنات عام 1832 على أيدي قبل مرسلات اميركيات، وقد تحولت هذه الكلية تدريجاً الى جامعة للاناث، وقبل انقضاء السبعينات كانت قد اصبحت جامعة للذكور والاناث، وأقامت على هضاب جبيل فرعًا اصبح ينافس مركز الجامعة في رأس بيروت وكان لآل الزاخم فضل في توفير المساحة اللازمة لهذا الفرع. وصار اسمها الجامعة اللبنانية الاميركية، وخلال السنوات الاخيرة حققت توسعًا في البرامج، وتملكت مستشفى رزق في الاشرفية ليكون العنصر المكمل لكلية الطب.

اضافة الى الجامعات المشار اليها، والتي تجاوزت جذورها الدينية وباتت أبوابها مشرعة لجميع اللبنانيين دون استثناء منذ اوائل الثمانينات، لا بد من الاشارة الى مدارس ثانوية وفرت الخلفية الضرورية للانتساب الى الجامعات، ولا نستطيع تعداد هذه بل نشير الى بعض منها متميزة إما باستمرارها، وإما بتوسعها.

كلية الشويفات يتجاوز عمرها ال145 سنة. فلدي صورة لوالدي تلميذً في هذه الكلية قبل انتقاله الى الجامعة الاميركية لصف الفرشمان تعود الى عام 1920. وكلية الشويفات التي عانت الاحتلال الاسرائيلي عام 1982، انطلقت لتنتشر في العالم من الخليج الى أوروبا والولايات المتحدة، واصبحت معروفة باسم SABIS الذي هو اختصار لاسم عائلة المؤسس شارلي سعد SA، والمدير العام النشيط نبيل بستاني BIS. وهذه الكلية توفر العلم ل70 الف طالب في مختلف بقاع العالم، ومنها كلية افتتحتها في المانيا لتعليم ابناء موظفي البنك المركزي الاوروبي.

وكلية الحكمة هي أيضاً تأسست منذ 145 سنة وكانت من أعرق الثانويات وخرجت دفعات من قضاة لبنان، الذين درسوا الحقوق في الجامعة اليسوعية، ومن ثم الهندسة في فروع هذه الجامعة. ومدرسة الحكمة – كما تعرف بالعامية – توسعت الى حد شجع المشرفين عليها لتأسيس جامعة نشاهد موقعها الحديث عند مدخل بيروت من جهة فرن الشباك.

في قلب بيروت وجدت مؤسستان للتعليم والثقافة الوطنية. اولاهما الاكاديمية اللبنانية التي ركزت على الفنون واصول الهندسة المنزلية واصبحت تعتبر من افضل المدارس في هذا المجال، وهي اليوم جزء من جامعة البلمند، علمًا بان تأسيسها سابق لهذه الجامعة، وكانت حتى 1958 في ابنية للراهبات العازاريات.

والمدرسة الاهلية التي تأسست منذ مئة سنة والتي تحتفل هذه السنة بمئويتها، قائمة في قلب بيروت الذي واجه الدمار الممنهج ومع ذلك ورغم تعرضها للاضرار استعادت نشاطها وصارت مجال العلم لـ500 طالب وطالبة يغرفون من روح التسامح والمعرفة والوطنية، ومجلس امنائها يتشكل من خريجين وخريجات ينتسبون الى مختلف الطوائف والمهن ومن مناصرين لاهداف الاهلية وهي مع مدرسة البوزنسون المدرسة الوحيدة المتبقية في وسط بيروت الذي كان يحتوي جميع اللبنانيين في حياتهم اليومية ونشاطهم التجاري والمهني. والاهلية أفضل شاهد على تمسك اللبنانيين بوطنيتهم وقلب عاصمتهم، وتميزت بان انطلاقتها ارتبط باسم سيدتين هما ماري كساب ووداد قرطاس، وابنها نديم عميد كلية الطب في الجامعة الاميركية سابقًا لا يزال رئيسًا لمجلس الامناء.

قبل اندلاع الحرب اللبنانية كانت هنالك مؤسسات تعليمية أخرى أو مراكز ثقافية، وقد انتقلت أو اندثرت. من هذه كلية البنات الاميركية التي كانت قبالة السرايا، والكوليج بروتستان التي كانت في موقع مبنى ستاركو، والمركز الثقافي الالماني الذي كان في وادي أبو جميل وقد نقل الى منطقة مقابلة لقصر فرعون او متحف روبير معوض.

ان هذه الشواهد على استمرار تعلق لبنان واللبنانيين بالعلم والانفتاح، وغيرها عشرات المدارس وبضع جامعات، تؤكد ان كل المعاناة التي واجهها لبنان واللبنانيون لم تخنق روح الانفتاح والعلم والتآخي، ولعل في هذه الظاهرة ما يشكل الامل الوحيد الذي يتعلق به هؤلاء.