الجدال العقيم الدائر بين واشنطن وتل أبيب حول تجنّب إقتحام رفح، وضرورة التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، لم يصل إلى مستوى المسؤولية الكبيرة التي تتحمَّلها الدولة الأعظم في العالم، في حماية النظام الدولي من الإنهيار، بسبب تجاوز الآلة العسكرية الإسرائيلية كل الخطوط الحمراء في حروب الإبادة الجماعية، والضرب بعرض حائط بكل القوانين الدولية، وبقرارات محكمة العدل الدولية، وصولاً إلى إقدام المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة على تمزيق ميثاق المنظمة الدولية في إجتماع الجمعية العامة، وأمام مندوبي ١٤٣ دولة في العالم، صوّتوا إلى جانب قرار الإعتراف بالدولة الفلسطينية.
العزلة الدولية التي تُحاصر الكيان الصهيوني للمرة الأولى منذ قيامه في مثل هذه الأيام عام ١٩٤٨، لم تردع نتانياهو وفريقه المتطرِّف عن الإستمرار في إرتكاب المجازر اليومية ضد المدنيِّين الفلسطينيِّين، والقضاء على عائلات بأكملها.
الغضب المتزايد في الشارع الأميركي، والذي إنتقل بعضه إلى الإعتصامات في الجامعات الكبرى في مختلف الولايات، شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، لم يدفع إدارة بايدن إلى إتخاذ القرارات الحاسمة، من وقف شحن الأسلحة المدمِّرة، إلى تجميد المساعدات المالية، وصولاً إلى مجلس الأمن لإصدار قرار وقف النار فوراً، تحت البند السابع، والإستعداد لفرض عقوبات موجعة، في حال تمردت الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب على القرارات الأميركية والدولية.
الواقع أن الديبلوماسية المتردِّدة والمرتبكة التي إتبعتها واشنطن مع تل أبيب ، قد كشفت حجم ضعف الإدارة الحالية في ترويض جموح نتانياهو نحو هستيريا الحرب، وإرتكاب الجرائم الموصوفة ضد النساء والأطفال. كما أظهرت تراجع نفوذ الإدارة الأميركية في أوساط النخب السياسية الإسرائيلية، والقيادات العسكرية، رغم كل الدعم الخرافي الذي قدمته إدارة بايدن للدولة الصهيونية منذ الأيام الأولى لإندلاع الحرب على غزة.
وأثبتت ليلة الصواريخ والمسيَّرات الإيرانية عجز الجيش الإسرائيلي عن مواجهة التحديات العسكرية بمفرده، وحاجته الدائمة للمساعدات الأميركية وبقية الحلفاء الغربيِّين، للحفاظ على الكيان المُغتصب.
إن القرار البريطاني السريع بإستمرار تزويد تل أبيب بالسلاح والذخيرة، تزامناً مع القرار الأميركي بوقف بعض شحنات الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل، قد وضع قرار واشنطن في دائرة الشك بمصداقيّته وجدّيته، وعزز الشبهات يالتنسيق المسبق مع لندن، وكأن ثمة توزيع أدوار بين الحليفتين الأساسيَّتين للدولة العبرية، مما أفقد قرار البيت الأبيض أهميته السياسية، كأداة ضغط على حكومة نتانياهو للعودة إلى «مفاوضات الصفقة» في القاهرة.
وفي حال إستمرار التغاضي الدولي عن جرائم حرب الإبادة التي يشنها نتانياهو، وتعطيل قرارات مجلس الأمن بالفيتو الأميركي، دون فرض عقوبات رادعة، وتأخير إتخاذ قرارات المحكمة الدولية بإدانة الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية، وعدم صدور مذكرات إعتقال نتانياهو وبن غفير وسمورتش، فإن النظام الدولي برمته، الذي إنبثق عن نتائج الحرب العالمية الثانية، سيكون في خطر السقوط بين أنقاض غزة ورفح، ويُعرِّض الإستقرار العالمي لتحديات عجز المؤسسات الدولية عن حفظ قواعد العدالة، العرجاء أصلاً، وصون المبادىء التي قام عليها القانون الدولي، حفاظاً على السلام العالمي، وعدم تعريض قارات العالم القديم إلى حروب كونية، كل ربع قرن من الزمن.
ومن مؤشرات سقوط النظام الدولي الحالي، هذا الإمعان الأميركي خاصة، والغربي عامة، على إعتماد مقياس المكيالين في التعاطي مع الأزمات الساخنة التي تهدِّد السلم العالمي، حيث بادرت هذه الدول إلى فرض عقوبات إقتصادية ومالية صارمة ضد روسيا، وإصدار مذكرات توقيف دولية بحق الرئيس الروسي بوتين، في الأشهر الأولى لإندلاع شرارة الحرب الأوكرانية. في حين أن الحرب الإسرائيلية على غزة في شهرها السابع، وأرقام ضحاياها من المدنيين، يفوق مئات المرات ما سقط في أوكرانيا، على مدى سنتين ونيّف من إستمرار الحرب، كما أن حجم الدمار في غزة لا يقارن بما هو حاصل في أوكرانيا.
الحرب في غزة دقت ناقوس إنهيار النظام العالمي، بعد تلاشي هيبة المنظمات الدولية وفعاليتها في فرض القانون الدولي، فهل تخرج ولادة النظام الجديد من بين أنقاض القطاع المنكوب؟