يبدو الحراك الاستثنائي الجاري اليوم، دولياً وإقليمياً، على وشك إحداث تغيير في مسار العديد من أزمات الشرق الأوسط، ومنها الملف اللبناني. فما الذي ينتظر لبنان في هذه الحال؟ وهل صحيح أنّ القوى الخارجية ستكرِّر سيناريوهات اعتمدتها مراراً؟
في مرحلة معينة، بعد انهيار 17 تشرين الأول 2019، بَدت الصورة في لبنان كالآتي: السعوديون غاضبون وعاتبون وسحبوا أيديهم، الإيرانيون يخوضون مواجهة «مصيرية» لاستمرار الإمساك بالقرار، والسوريون معزولون عربياً ودولياً وغارقون في أزماتهم. وخَلت الساحة لحراكٍ تقوم به الولايات المتحدة وفرنسا.
راهنَ الأميركيون على تغيير معادلة القوة في لبنان، بإبعاده عن نفوذ طهران ودفعه إلى مسار حليف لهم. لكن انتفاضة 17 تشرين فشلت في تحقيق هذا الهدف، على رغم تغيير حكومتين وانتخاب مجلس نيابي جديد. ولم يثمر الدور الوسطي الذي اضطلع به الفرنسيون، إذ لم يُلبِّ مطالب الأميركيين ولم يُرضِ طموحات الإيرانيين.
مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون ودخول المؤسسات مرحلة التحلُّل، بَدا الجميع مستعدين لتجربة مبادرات جديدة «أكثر تواضعاً». فنشأت «مجموعة الخمسة» التي التأمت في باريس. وبعد الاتفاق السعودي – الإيراني، بات يُحسَب للإيرانيين موقع داخل اللعبة. ويعتقد البعض أن الحلحلة في العلاقات السعودية – السورية قد تتيح لدمشق رعاية جانب من التسوية لاحقاً، بعد حلحلة مشكلاتها، في الداخل ومع بعض الأطراف العرب.
«مجموعة الخمسة» أو الستة أو أكثر ستكون مجلس الوصاية الجديد على لبنان (لا فرق هنا إذا كان مصطلح «الوصاية» يحمل المعنى الإيجابي أو السلبي). ففي أي حال، لا مجال لفَرض الوصاية بالشكل «المطلوب» إلا إذا خسر اللبنانيون قرارهم بشكل كامل، ووصل بهم الانهيار إلى حدّ الاستسلام. والمؤشرات إلى هذا الاتجاه تبدو واضحة:
1 – إنعدام أي فرصة لوقف الانهيار اللبناني حتى إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والرضوخ لمطالب الجهات المانحة وطلب المساعدات العربية باعتبارها الركيزة الأساسية للمساعدات المرصودة في مؤتمر «سيدر». فالأميركيون هم الذين يُمسكون عملياً بتوجهات الصندوق والبنك الدوليين، فيما السعوديون هم أصحاب القرار في تحريك المساعدات العربية.
ولذلك، ثمة معلومات مفادها أنّ واشنطن لا ترغب إطلاقاً في إمرار أي تسوية في لبنان لا تُرضي السعوديين، لأنّ أي تسوية قد يجري التوافق عليها اليوم في لبنان لن تكون قابلة للتنفيذ ما لم ترتبط ببرنامج تمويل يوقف الانهيار ويؤسّس للانطلاق من جديد.
وينطبق هذا الحرص الأميركي على ملف تسمية رئيس للجمهورية. فقد أبلغَ الأميركيون إلى الذين يعنيهم الأمر أنهم حريصون على أن يحظى أي رئيس جديد للبنان برضى المملكة. وإذ يعلن الأميركيون أن لا مشكلة لديهم في التعاطي مع أي رئيس يتم انتخابه، لأنّ هذه المسألة هي شأن لبناني داخلي، فإنهم في الواقع لن يسهلوا انتخاب رئيس يلقى اعتراضاً في الرياض.
وحتى الفرنسيون الذين تبايَنت نظرتهم مع السعوديين في اللقاء الثنائي الذي عقد في باريس، الشهر الجاري، باتوا اليوم أقرَب إلى هذه الرؤية، بعدما استنتجوا أنّ المملكة متمسكة بموقفها حتى النهاية.
2 – الغموض الذي يكتنف ملف الغاز في لبنان، على رغم توقيع اتفاق الترسيم بحراً مع إسرائيل. وثمّة مَن يعتقد أنّ لبنان سيبقى ممنوعاً من الاستفادة من موارده الغازية والنفطية حتى إشعار آخر، وسيبقى هذا الملف ورقة ضغط على المعنيين في لبنان حتى ترتسم التسوية الجديدة ويُعطى الضوء الأخضر للذين سيكونون مُمسكين بالسلطة ويُسمح لهم بالحصول على مليارات الدولارات، على مدى سنوات عديدة.
ويرتبط ملف الغاز أيضاً بمنع الطاقم السياسي المُمسِك بالسلطة حالياً في لبنان من التقاط الأنفاس بالاستفادة من الغاز المصري والكهرباء الأردنية. وهناك مَن يتحدث عن شروط سياسية معينة سيكون على لبنان التزامها لتحقيق الانفراجات المنشودة. وهذه الشروط ستتبلور مع صياغة التسوية الداخلية، برعاية القوى الإقليمية والدولية.
3 – إنكشاف القضاء اللبناني على وصاية دولية واضحة، من خلال الانخراط الأوروبي والدولي المباشر في العديد من الملفات المالية والأمنية الساخنة، من المرفأ إلى مصرف لبنان، مروراً بمسائل الأمن.
إذاً، ينتظر لبنان إنضاج «طبخة» الوصاية على قراره، بعدما تمادى أركان السلطة في تسييبه ودفعه عميقاً في الانهيار. ويوحي الحراك المكثّف الجاري إقليمياً ودولياً بأن النار قوية. ولكن، سيبقى الرهان: هل تنضج هذه «الطبخة» أم تحترق؟
البعض يقول إن لبنان يمكن أن يكون مقبلاً على ما يشبه «حُكْم القناصل» الذي أداره حتى الحرب العالمية الأولى. ولكن، بأي وسيلة وأدوات سيتحقق ذلك في ظل الظروف الحالية؟ تلك هي المسألة.