المخرج الاستثنائي ينتظر المرسوم في «جلسة النفايات»
رواتب العسكر في الجيوب.. بعد «حفلة التهويل»
لم يصل الامر الى حدّ تجمّع أهالي العسكريين أمام مصرف لبنان او وزارة المالية من أجل صرف أموال رواتب العسكر والضبّاط بالقوة.
لم يلجأ أهل القرار الى خيار الاستدانة من مصرف لبنان ثم إعادة الاموال اليه حين يتأمّن المخرج القانوني لها.
لم يجتمع مجلس الوزراء ويصدر مرسوما يحمل تواقيع كافة الوزراء لنقل الاموال من احتياطي الموازنة الى بند الرواتب، كما لم يصدر مرسوم عادي يؤمّن الرواتب بعد تأخير دام لايام.
لم يتكرّر سيناريو قائد الجيش السابق اميل لحود مع فؤاد السنيورة عام 1993 حين اوعز الى احد الضباط بالتوجه على رأس دورية وبأمر من القضاء العسكري، بعد اجتماع عقده مع مدير المخابرات آنذاك ميشال رحباني ومدير عام الامن العام جميل السيد، الى وزارة المالية لجلب سكرتيرة السنيورة للاستماع الى إفادتها التي قامت، وبتشجيع من الاخير، بإهانة مسؤول الشؤون الادارية العميد موسى زهران الذي كان يحمل ملفاته لعرضها أمام السنيورة المتعلقة بحقوق المؤسسة العسكرية ومتطلّباتها المالية الملحة.
يومها تدخّل غازي كنعان، بعد اتصال من الرئيس رفيق الحريري لوقف ما وصفه بـ «الانقلاب» ضد الدولة. المسؤول السوري اعتبرها مشكلة عابرة تحلّ باتصالات محلية بين السياسيين ولا تحتاج الى الاصبع السوري طالما ان لا رائحة انقلاب بالموضوع.
الفوارق كثيرة بين الامس، يوم كانت «الحريرية» تتّهم بالاستخفاف بمتطلبات مؤسسة كان دعمها في آخر سلم الاولويات، واليوم حين فاض كوب «زبالة السياسيين» الى حدّ الاستخفاف برواتب العسكر، لكن قاسمها المشترك واحد: إهانة الجيش وكافة القوى العسكرية. وهذه المرّة لا وصي خارجيا على اللبنانيين يمنعهم من الذهاب بعيدا في الاستهتار بالمؤسسات وبالجيش!
بعد حالة الضياع والارتباك وتقاذف المسؤوليات، تمّ التوصل الى صيغة قانونية واستثنائية ومؤقتة تؤمّن معاشات العسكريين و «تخدم» لشهر واحد، على ان تجري قوننتها لاحقا من خلال مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء مجتمعا.
وهنا ستتمّ العودة الى أحد مكامن الازمة. وزراء «التيار الوطني الحر» لن يداوموا إلا في جلسة عنوانها النفايات فقط، طالما ان شرط التعيينات الامنية لم ينفّذ على ان يصدر مرسوم نقل الاعتماد من احتياطي الموازنة الى بند الرواتب بمرسوم عادي.
الوجه الاخر للازمة الاكثر أهمية هو ان دفع الرواتب ليس فقط من مهام الحكومة، فثّمة جداول بإلانفاق في الجيش تستلزم قرارات حكومية سيؤدي عدم بتّها وصدور مراسيم فيها الى تكبيل الجيش.
مشهد غير مسبوق لم يحدث مثيل له لا أيام الحرب ولا أيام السلم. وزير المالية، متوسّطا وزير الدفاع وقائد الجيش، يعلن التوصّل الى صيغة قانونية لكن استثنائية لدفع رواتب العسكريين بعد تأخير دام أيام.
بالامس باشر الضباط والعسكر بقبض رواتبهم بحيث سيبقى مفعول «الصيغة» قائما حتى نهاية الشهر. حلّت المسألة، لكن الضرر قد وقع ولا تنفع معه عبارة الوزير سمير مقبل «العسكريون سيقبضون رواتبهم اليوم (أمس).. والقضية انتهت»!.
ترافقت النهاية السعيدة مع تساؤلات من نوع «ما مبرّر تضخيم الازمة الى هذا الحدّ وتهديم الجدران في كل مرة تثار فيها مسألة الرواتب، إن كان رواتب القطاع العام او العسكر، إذا كانت المخارج في الجيوب ولا تظهر إلا في اللحظة الاخيرة؟ ولمصلحة مَن هذا الاستثمار السياسي في حقوق اللبنانيين البديهية؟ ولماذا لا يطال التقشّف في الدفع رواتب النواب والوزراء المتقاعسين عن مهامهم فيما لا ترصد الجيوب الفارغة إلا لدى موظفي الدولة وعسكرها؟».
تشابهت أزمة رواتب العسكريين، شكلا، مع أزمة النفايات. في اللحظة الاخيرة عَلَت الصرخة: أين الرواتب؟ تماما كما صرخ السياسيون سابقا: من «يلمّ» النفايات من الشوارع؟
رَسَت التسوية على صيغة قانونية، لها المفاعيل نفسها لمرسوم صادر عن الحكومة، وضامنها الأوحد هو رئيس الحكومة تمام سلام الذي انهكته مهمّة إزالة «حواجز المطامر» من أمام انعقاد جلسة النفايات، لكن هذه التسوية لم تطو الاسئلة الكثيرة التي رافقت وصول أزمة الرواتب الى هذا المنحدر من الاستخفاف باستحقاق يكاد يكون «مقدسا»، خصوصا في ظل المهام الاستثنائية التي تضطلع بها القوى الامنية والعسكرية في هذه المرحلة.
قبل اسابيع من الازمة، بشّر سياسيون بأزمة الرواتب القادمة، الامر الذي انعكس مباشرة على معنويات العسكريين واشعل الازمة في الاعلام وعرّضها الى مزيد من الابتزاز السياسي.
فورا بدأ الجميع يتسابق على تنظيم قصائد مدح ودفاع عن الجيش وهيبته وقوته ولقمة عيش عسكرييه، لكن الجهد الفعلي لتجنّب الفضيحة، التي لم تشهدها اي حكومة حتى في عزّ الانقسامات السياسية والحروب، لم يبدأ إلا بعد ان وقعت الكارثة.
فالرهان على انعقاد مجلس الوزراء في جلسة في أواخر الاسبوع الماضي وأوائل الاسبوع الحالي، سقط. وانتظار الانفراج في ملف النفايات، كمدخل لعقد الجلسة، طال الى الحدّ الذي استوجب اللجوء الى أبغض الحلال: تعديل «الصيغة» ولمرّة واحدة. هذا يعني ان بقاء الازمة السياسية على ما هي عليه سيؤدي لاحقا الى إعادة إنتاج أزمة الرواتب بداية العام المقبل.
وكما النفايات كذلك الرواتب، تقاذف المسؤوليات كان فاقعا. في جلسة 27 آب الماضي، والتي شهدت مقاطعة من وزراء «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، تمّ إقرار رواتب القطاع العام عبر فتح اعتمادات إضافية لتغطية الرواتب والاجور ومعاشات التقاعد للموظفين وتأمين التغذية للجيش. محطة جعلت «الفأر» يلعب في «عبّ» العونيين «ما الذي منع الوزراء آنذاك من إقرار رواتب العسكريين أيضا تفاديا للازمة التي حصلت؟».
هؤلاء لا يشيرون إذا كان المقصود بالاتهام وزير المالية الذي لم يدرج بند رواتب العسكر من ضمن المرسوم او وزير الدفاع الذي تلكأ عن إبلاغ المالية بمتطلّبات المؤسسة العسكرية من استحقاق الرواتب خصوصا رواتب المتطوّعين الجدد (قسم من رواتب العسكر كان مقونن الدفع والقسم الآخر كان يحتاج الى مرسوم).
أكثر من ذلك، تتساءل اوساط مقرّبة من عون عن سرّ افتعال وتضخيم الازمات حيال الاستحقاقات المالية من قروض البنك الدولي الى مسألة رواتب القطاع العام ورواتب العسكر، فيما بسحر ساحر وبعد كل «حفلة تهويل» يتمّ التوصل الى صيغ للدفع!
من جهتها وزارة المالية تصرّفت من منطلق الحريص على عدم حصول أي صرف من خارج القوانين المتبعة، وقد كرّر الوزير علي حسن خليل أكثر من مرة بأن أموال الرواتب مؤمّنة وجاهزة لكنها تنتظر قوننة صرفها بمرسوم في مجلس الوزراء.
قيادة الجيش تحّركت وهدّدت. لكن متابعين يرون ان تحرّك العماد جان قهوجي جاء متأخرا، والأهم أنه تمّت مواكبته إعلاميا وانتهى بحضوره واقفا الى جانب وزير المالية وهو يعلن قرار تأمين الرواتب.
قيادة الجيش: لن نقف عند «مشكلة طارئة»
لكن التعميم الذي أصدرته لاحقا قيادة الجيش ـ مديرية التوجيه، في نشرة توجيهية على العسكريين بعنوان: «تأخّر دفع رواتب العسكريين لشهر تشرين الثاني»، شكّل برأي كثيرين أيضا ردّا مباشرا على الخفّة السياسية التي طبعت أداء أهل السلطة في التعاطي مع حقوق العسكر.
وقد كان التعميم واضحا في التأكيد على ان الاتصالات التي قامت بها قيادة الجيش مع الجهات المعنية في الدولة هي التي «أثمرت عن إيجاد حلّ فوري لهذه المسألة».
وأملت القيادة «أن لا تتكرر هذه السابقة، من خلال قيام المعنيين باستدراكها قبل حصولها» مؤكدة أن «معنويات العسكريين ولقمة عيش أفراد عائلاتهم، هي من أولويات القيادة، ولن تسمح بالتفريط بها تحت أيّ ظرفٍ من الظروف»، داعية الى «عدم إقحام الجيش في النزاعات والخلافات السياسية الضيقة»، ومؤكّدة «أن أبناء هذه المؤسّسة لن يقفوا عند مشكلة طارئة من هنا أو هناك، وسيتجاوزون ما حصل بروح المناقبية والالتزام».
«إعلان اليرزة»
بعد التوصّل الى تسوية بشأن الرواتب، زار وزير المالية علي حسن خليل، أمس، وزارة الدفاع في اليرزة للإعلان عن حل الأزمة، حيث عقد اجتماعاً مع وزير الدفاع سمير مقبل وقائد الجيش العماد جان قهوجي.
وإثر اللقاء أكد خليل «حل الإشكالية التي كانت قائمة حول صرف الرواتب للجيش»، مشيرا الى «اننا أخذنا استشارة قانونية لتأمين هذا الشهر، وصدر فعلا توجيه من رئيس مجلس الوزراء بعد سلسلة من الاتصالات التي أجريت خلال اليومين الماضيين، وتوصّلنا الى مخرج قانوني استثنائي يضع مشروع مرسوم التحويل من الاحتياط الى بند الرواتب موضع التنفيذ».
ورأى ان «هذا الإجراء الاستثنائي يجب ان يبقى في وضعه الاستثنائي حتى صدور المرسوم عن مجلس الوزراء في اقرب وقت ممكن»، داعيا الى «إبعاد هذا الملف عن التسييس»، ومؤكدا ان «على الجميع ان يتحمّل مسؤوليته وان يوافق في أول جلسة لمجلس الوزراء على نقل هذا الاعتماد كي نستطيع ايضا تغطية الاشهر المقبلة من دون أي ارتباكات».
من جهته تمنى مقبل «ألا تكون رواتب العسكريين محور تداول بين السياسيين والإعلام».