لا تبدو العقوبات الأميركية الأكثر شدة مجرد منازلة أخرى إضافية أو فصلٍ في الصراع الأميركي – الإيراني، بل تكاد تتخذ شكل مبارزة أخيرة وحاسمة بين قوّة عظمى دولية لديها كل المقوّمات العسكرية والاقتصادية والسياسية وقوّة تريد أن تكون «عظمى» إقليمياً وتضع كلّ مقوّماتها في اختبار صعب يواصل إضعاف اقتصادها. بين الطرفين ثارات لا يريدان الخروج منها: أربعة عقود من الأفق المسدود، ثم مفاوضات نووية واتفاق ومجاملات بل مغازلات أوبامية لم تبدُ كافية كي تغادر إيران مربع الغضب والحقد الذي حصرت نفسها فيه منذ ثورتها ولا مؤشّر إلى أنها تريد فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة. في المقابل، أظهر دونالد ترامب اختلافات، جذرية أحياناً، عن الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، لكنه لم يشذّ عن التقليد المعروف بأن أي رئيس جديد لا يستمرّ على سياسة ليّنة اتّبعها سَلَفه، خصوصاً إذا فشلت في بلوغ أهدافها، لذلك فهو يسعى الآن إلى تحقيق ما أراده أوباما لكن بأسلوب مختلف تماماً.
لم يردْ رجل الأعمال النيويوركي الذي صار رئيساً أن تكون قراراته مجرد سياق حدثي في استراتيجيته، لذلك أضفى عليها بُعداً «عقائدياً» بل ثأرياً يتنافى مع تركيبته البراغماتية. دخل خمسة رؤساء قبله البيت الأبيض بعد أزمة رهائن السفارة في طهران (4/11/1979)، أولهم رئيس قوي هو رونالد ريغان الذي شهد النهاية المذلّة لتلك الأزمة في يوم تنصيبه (20/01/1981) ولم يكن فيها ما يشير إلى أن الإمام الخميني أرادها بادرة «حسن نيّة»، فقبل ذلك أدركت إيران أن الردّ الأميركي بدأ بإشعال العراق حربه ضدّها (04/09/1980)، وما لبثت أن حرّكت «حزب الله» اللبناني في هجومَين انتقامَيين، أولاً بتفجير السفارة الاميركية في بيروت (18/04/1983) ثم تفجير معسكر المارينز (23/10/1983). لم ينسَ الرؤساء الأربعة بعد ريغان هذه الوقائع، لكنهم فكّروا أو حاولوا عبثاً فتح قنوات لتطبيع العلاقة مع طهران. لم يكن متوقّعاً أن يستخرج رجل الأعمال وقائع قاسية كهذه بين أميركا وإيران ليضع العقوبات في إطار تاريخي يرضي «عقيدة» جنرالاته ويداعب غلوّ شعبوييه. فالعقوبات أداة لتصفية الحسابات.
لا يبذل ملالي طهران أي جهد متكلّف لتظهير تاريخ مواجهتهم مع أميركا، فالعصب العقائدي عندهم دائم الحضور واليقظة. لم ينسوا حقبة الشاه ويعتبرونها أميركية أولاً وأخيراً، وحتى بعدما استتبّ الأمر لهم لم يسعوا إلى نسيانها ولم يحاولوا، بل جعلوها لازمة الشحن السياسي المتمذهب. هم أيضاً متعطّشون للانتقام. شيطنوا أميركا وهي شيطنتهم. هم أهدوها «عراق صدّام» وهي أهدتهم «عراق ما بعد صدّام» فاتخذوه جسراً لمدّ نفوذهم. خلعوا الشاه الذي نصّب نفسه إمبراطوراً، لكن الولي الفقيه يفاخر بأنه أحرق أربعة بلدان ليقيم «إمبراطورية» ويريد إرغام العالم بما فيه أميركا على الاعتراف بها، غير أنه نسي في غمرة فتوحاته أن لديه بلداً لا ينفكّ يتأخّر وشعباً تتفاقم معاناته بفعل العقوبات، فكل ما يعنيه أن يكدّس الأسلحة لترهيب الداخل وغزو المجتمعات العربية من داخلها. لدى الملالي حسٌّ عميق بالتاريخ ورغبة عارمة في قولبته لا التعلّم منه. يعرفون كيف تنشأ حالات الاستبداد وكيف تأَفل وتنتهي ممقوتة، إلا أنهم يعمون عن الاستبداد الذي أسسوه في الداخل على رغم أن تظاهرات الاحتجاج حوّلت شعار «الموت لأميركا» إلى «الموت للمرشد»، بل عملوا على تصدير تجربتهم باسم «الثورة» وسخّروا مواردهم لإبقاء أسوأ حال استبداد وحشي في سورية ولحمايتها.
بين 1979 و2018، كانت العقود الأربعة مسلسلاً طويلاً من العقوبات، إمّا دولية يُعرف متى تُفرض ومتى تُرفع، أو أميركية بلا نهاية، واعتاد العالم أن إيران لا تعرف العيش من دون عقوبات، وأن أميركا لا تعرف طريقة أخرى للتعامل مع إيران. كانت هناك استراحات قليلة وقصيرة، آخرها في عهد باراك أوباما، ولم تستغلّها طهران للتخلّص منها بتصحيح مسارها، بل بدت دائمة السعي إليها، فبعد رهائن السفارة وتفجيرات بيروت كان تدشين البرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم محفّزاً كافياً لفرض عقوبات إلى أن حصل تفاوض وتجميدٌ للتخصيب (منتصف التسعينات)، لكن استئنافه بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد أعاد العقوبات وما لبث التلاعب بنتائج انتخابات 2009 للتجديد لنجاد وزيادة كمّ التخصيب ودرجته أن وسّعاها وأطلقا نقاشاً في الكونغرس الأميركي والاتحاد الأوروبي للذهاب أبعد في تشديدها وتعميمها دولياً.
كان يُفترض أن يكون ما بعد الاتفاق النووي (منتصف 2015) أفضل مما قبله، إيرانياً وإقليمياً، أو هذا في الأقل ما واظبت إدارة أوباما على تأكيده إلى أن صمتت بعد تيقّنها من العكس، فدفعت تعويضاً لإسرائيل عما ألحقه الاتفاق بها من «أضرار»، ولم تعترف بأضرار وقعت على العرب، ليس من الاتفاق فحسب، بل مما ارتكبته إيران في سورية والعراق واليمن ولبنان بانتهازها المفاوضات النووية لدفع ابتزازاتها إلى أقصاها. كان أوباما تحوّل من فرصة تاريخية إلى نكد خالص للعرب، ليس فقط بسبب الاتفاق ومفاوضاته أو نتيجة إخفاقه ثم رضوخه للتطرّف الإسرائيلي بل خصوصاً لأنه أمّن غطاءً مجّانيّاً للتخريب الإيراني. أما الآن فـ «من نكد الدنيا» على العرب أن يطرح ترامب ونتانياهو نفسيهما فرصةً لاحتواء إيران ووضع حدٍّ لمغامراتها وأطماعها، لكن لقاء أثمانٍ وتنازلات قد تفوق بتبعاتها المستقبلية الكلفة الباهظة للتخريب الإيراني.
قبيل البدء بتطبيق العقوبات المشدّدة الجديدة، وهي تستهدف للمرّة الأولى القطاعين النفطي والمصرفي بحظر صارم، أعادت طهران إحياء خبرات حقبة «اقتصاد العقوبات»، مع الاعتماد على منظومات تحاول دول «صديقة» ابتكارها ليس فقط لتخفيف الوطأة عليها، بل أيضاً للتعبير عن رفضها النهج الترامبي.
ستكون إيران دولة يعتمد اقتصادها على التهريب والسوق السوداء وتزوير البيانات، وفي الحالات شبه الشرعية سيعتمد على المقايضة (نفط مقابل سلع ومعدّات) كما بالنسبة إلى الشركة الأوروبية «ذات الغرض الخاص»، أما الدول الثماني التي نالت إعفاءات أميركية «موقتة» فإن التبادل معها سيكون بالعملات الوطنية تجنّباً للدولار أي أن إيران تستطيع إخراج النفط من موانئها من دون أن تدخل الأموال في حساباتها… ربما تحول هذه الأساليب دون الانهيار الاقتصادي لكنها لا تمكّن إيران من إنعاش عملتها أو من معالجة الاحتقان الاجتماعي. ولأن طهران لا تملك سوى خطط للاستمرار في السياسات ذاتها، فإن الأخطار ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات، لا سيما أسوأها.
عندما يستنبط المرشد والرئيس وآخرون ردّاً على العقوبات مفاده أن أميركا «تجلب لنفسها العار» أو «تعيش في عزلة دولية» لأن الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق النووي لا تزال تلتزمه، فإن النظام الإيراني يبدو متناقضاً ومنفصلاً عن الواقع.
فالمرشد لم يتوقف عن مشاركة ترامب قوله أن الاتفاق «سيئ للغاية»، أما الرئيس ووزراؤه فيلحّون على الأوروبيين كي ينفّذوا تعهّداتهم «إنقاذاً» للاتفاق. ويتناسى أقطاب النظام أن الأوروبيين غير المؤيّدين نهج ترامب يلتقون معه موضوعياً في ضرورة معالجة ثغرات الاتفاق النووي وضبط البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران، أي أنهم يلتقون معه على «أهداف العقوبات» وإنْ واصلوا رفضها علناً.
ينطبق ذلك جزئياً على الصين وروسيا المهتمّتين بمصالحهما أولاً وحتى بدعم إيران في مواجهتها مع أميركا، لكنهما غير معنيّتين بـ «الأيديولوجية» التي تتحكّم بإدارة تلك المواجهة ومآلاتها. لا شعبية دولية للعقوبات، لكن لا شعبية دولية لإيران أو لترامب. العقوبات حربٌ لا تعترف باسمها وقد تحقّق بعض أهدافها بلا مدافع وصواريخ.
وفي غياب خريطة طريق قد تقود العقوبات إلى تفاوض كما يريد ترامب أو إلى تهوّر عسكري يريده الملالي.
كانت إيران واكبت الأضرار الفادحة التي ألحقتها العقوبات بالمجتمع العراقي بين 1990 و 2003، غير أن نظام طهران يتمثّل الآن بنظام صدّام في اعتبار صموده انتصاراً. في تلك الحال قيل أن العقوبات موجّهة ضدّ النظام وليس ضدّ الشعب، وكما ابتُدع للعراق نظام «النفط مقابل الغذاء والدواء» أقرّت واشنطن «إعفاءات إنسانية» لتسهيل مرور الأغذية والأدوية إلى إيران، لكن النظام وزبائنه سيكونون المستفيدين الوحيدين. وعلى رغم الفارق بين نظامَي البعث والملالي فإن كليهما التقيا في نهاية المطاف على تخريب استقرار الإقليم.