IMLebanon

حرب الصيغتين: الرياض تُؤكِّد المناصفة وباريس لحُكم الشيعية

 

 

لا يمكن بتر الحاضر عن التاريخ، فما نشهده ليس سوى امتداد لمسار أوصلنا في لبنان إلى لحظة التقاء فرنسية – سعودية مزدحمة بالمصالح والتناقضات على مستوى الإقليم والعالم. وتُفضي القراءة الموضوعية إلى تصنيف ما يجري حالياً بأنّه صراع بين صيغة العام 1943 الفرنسية وصيغة الطائف العربية – السعودية، وهذا يفسر الحراك السعودي – الفرنسي المتصادم لبنانياً والباحث عن المصالح المشتركة إقليمياً ودولياً، وهذه هي حال الدول المؤثِّرة. وبينما يؤكد الواقع أنّ صيغة 1943 الفرنسية فشلت وأدّت إلى الحرب الأهلية فإنّ اتفاق الطائف أنجز المصالحة رغم أنّه لم يُطبـّق بكامل بنوده وخاصة الإصلاحية منها.

 

شكّل إسقاط الاتفاق الثلاثي على يدي سمير جعجع تثبيتاً للتوازنات الوطنية عندما حاولت الشيعية السياسية اختزال جميع المسيحيين بالعونية السياسية، فأفشل جعجع هذه المحاولة وعوقب عليها في العام 1994 ومهّد الطريق لاتفاق الطائف الذي كرّس المناصفة وأراح المسيحيين من السباق الديمغرافي وأوقف العدّ، ولاحقاً عندما رفض سعد الحريري الخروج من التسوية الفرنسية السعودية التي جاءت بميشال عون رئيساً للجمهورية والتي انقلب عليها «حزب الله» جرى إخراج سعد الحريري من المعادلة السياسية اللبنانية باعتبار أنّ ما قام به هو تجاوز لكل الخطوط الحمراء السعودية في عدم التهاون مع أيّ مسّ باتفاق الطائف، فكيف وقد حصل ذلك من قبل الوكيل السعودي في هذه التسوية التي كان لها مهمة وحيدة هي حماية دستور الطائف.

 

فرنسا توالي الشيعة بعد الطائف

 

تعاطى الحكم الفرنسي مع المسيحيين بعد الطائف على أنّهم لم يعودوا عمقه الاستراتيجي وبالتالي أصبح الباب اللبناني في فرنسا باباً سُنّياً مع رفيق الحريري إضافة إلى الباب الخلفي غير المنظور، والذي انكشف في هذه المرحلة، وهو الباب الشيعي بتكوين نظرة أنّ «حزب الله» قادر على تأمين مصالح باريس في النفط والغاز وفي السيطرة على المرافق في لبنان بسلاحه وتأثيراته الاستراتيجية.

 

جسّد الجنرال ميشال عون، في حربه على اتفاق الطائف في نهاية التسعينات من القرن الماضي، التمسّك الفرنسي بصيغة 1943 ورفض باريس لأيّ تعديل فيها ولاتفاق الطائف ومندرجاته الدستورية والسياسية.

 

وعندما وصل عون إلى رئاسة الجمهورية عام 2016 بموجب الصفقة الرئاسية المشؤومة، حَكَمَ بوحي صيغة 1943 وليس بروحية ونصوص دستور الطائف، ومارس كلّ ما من شأنه تقويض المؤسسات والمنطلقات الدستورية، وهذا ما يفسِّر الطلب السعودي من سعد الحريري الخروج من الشراكة التي تستهدف الطائف.

 

ما قد لا ينتبه إليه البعض هو أنّ فرنسا هي أحد عوامل الحراك الشيعي العنيف ضدّ السعودية طيلة المراحل السابقة لأنّ باريس ترى أنّ الرياض تريد تكريس «السنية السياسية» و»المارونية السياسية» وإبقاء الواقع على حاله، وهذا ما يراه الثنائي الشيعي ومن ورائه فرنسا معرقلاً لما يعتبره ضرورة تطوير النظام للحصول على مكتسبات يراها من حقه بعد كلّ التضخّم الذي وصل إليه بالسلاح والاقتصاد، في الداخل وفي الإقليم.

 

مكاشفة سعودية لفرنسا

 

استمرّت الاندفاعة الفرنسية ضدّ الطائف حتى العام 2022 ما دفع السفير السعودي في لبنان وليد البخاري إلى زيارة باريس ليعلن في 5 تشرين الثاني 2022 خلال مؤتمر الطائف تأكيده أنّه طرح سؤالاً حول احتمالية في نية فرنسا لدعوة القادة إلى لقاء وحوار وطني، «فأكد لنا مستشارو ماكرون أنه ليس هناك أي نية في طرح لدعوة أو نقاش طائف أو تعديل دستور».

 

يتلاقى استخدام «حزب الله» لورقة اللجوء السوري كعامل ضغط ديمغرافي على المسيحيين باعتبار أنّ اللاجئين السوريين من السنة، معطوفة على المعزوفة التي دأب عليها جان ايف لودريان بزعمه أنّ لبنان إلى زوال للضغط على القوى المسيحية للقبول بالمثالثة، وما يجري هو صراع شيعي – ماروني يتمثّل في تعطيل مجلس النواب لمنع انتخاب الرئيس الماروني المسيحي الوحيد في العالم العربي، ولابتزاز المسيحيين بالإيحاء بأنّ رفضهم الحوار والقبول بطروحات الثنائي الشيعي يجعلان من ميشال عون آخر رئيس للجمهورية في لبنان.

 

لم تتخلّ باريس عن فرنجية رغم مزاعم لودريان فتح صفحة جديدة ليست سوى تفاهمه مع الرئيس نبيه بري على عقد الحوار خارج لبنان ليكون حواراً على الدستور وليس على الرئيس، بينما قالها البطريرك بشارة الراعي: لماذا الحوار طالما هناك مرشحان من فريقين متنافسين. افتحوا مجلس النواب ونهنئ الفائز! هل تعطي الصيغة الجديدة الشيعة المزيد من الحصص المارونية في الدولة كتعويض عن المؤتمر التأسيسي الذي يسعى إليه الثنائي الشيعي أو كبديل عن المثالثة التي يحلمان بها؟ كاستحداث منصب نائب رئيس جمهورية بصلاحيات يكون من حصة الشيعة، بحيث إذا تعطل انتخاب الرئيس يكون نائب الرئيس الشيعي هو رأس الدولة التنفيذي ويقابله رئيس المجلس النيابي وهو شيعي، بينما يكون رئيس الحكومة السني أشبه برئيس حكومة تصريف أعمال منقوص المشروعية الدستورية، ولا يقف الطموح الشيعي عند هذا الحدّ بل سيطال قيادة الجيش وهدفه الخروج من إشكالية امتلاك قرار الحرب والسلم ليصبح بيد قائد الجيش الشيعي، والذي سيكون من أولى مهامّه ضمّ المائة ألف مقاتل الذين أعلن عنهم أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله إلى هيكلية الجيش مع ما يستتبع ذلك من نفقات وتوظيف، وفي حال الرفض سيكون هناك جيش يشبه الحرس الثوري في إيران أو الحشد الشعبي في العراق.

 

إضافة إلى المطالبة بحاكمية مصرف لبنان للخروج من عقدة الاستحواذ على وزارة المالية لضمان التوقيع السيادي الرابع، ليصبح الأمر بيد حاكم مصرف لبنان (الشيعي) المطلق الصلاحية، وبالتالي فإنّ أيّ توقيع على أيّ مرسوم لا يمكن أن تُصرف له الاعتمادات المالية إلاّ بأمر الحاكم الشيعي. إنّ طرح مشروع المثالثة في لبنان بالصيغة التي يسعى إليها الفرنسيون وبالجموح الشيعي يحقِّق المصالح الفرنسية برعاية الأقليات في المنطقة لجعل الطائفة الشيعية هي الحاكمة في لبنان كاحتياطٍ بديل عن احتمال سقوط النظام العلوي في سوريا.

 

ماذا بعد لقاء ماكرون – بن سلمان؟

 

بعد لقاء ماكرون – بن سلمان، هل انتهت حرب الصيغتين؟ وهل اقتنع الإيراني والشيعي معه في لبنان بعدم جدوى السعي إلى تطبيق المثالثة والتوجه إلى استكمال تطبيق الطائف مع تعديلات وبعض الامتيازات التي لا تُخِلّ بتماسك هذا الاتفاق – الدستور؟ وهل اقتنع الفرنسيون بعد الانتفاضة المتأخِّرة التي تقودها القوات اللبنانية والكتائب وبقية مكوِّنات الاعتراض… بأنّ الحضور المسيحي في لبنان لا يزال أساسياً في الشرق وأنّه لا يمكن تجاوز المسيحيين لصالح تغليب الشيعة وضرب التوازن… بعدما تبيّن لباريس أنّ حليفها الشيعي غير قادر على فرض رئيسٍ للجمهورية رغم امتلاكه وهج السلاح ورغم الانقسام المسيحي الحادّ؟

 

الحرب بين الصيغتين الفرنسية والعربية السعودية مستمرّة بأشكالٍ مختلفة وبينما يراهن معسكر الممانعة مع فرنسا على تأثير الوقت للوصول إلى أهدافه ترى الرياض أنّ الارتداد عن اتفاق الطائف سيعيد لبنان إلى ما قبل السلم الأهلي ويهدِّد الاستقرار، بينما بدأت دعوات الطلاق تشقّ طريقها بين الداعين للانتماء للنهضة العربية التي تقودها السعودية وبين من يريد فرض نموذج الجوع والتخلف والقمع الإيراني على الشعب اللبناني، فهل توصّل لقاء ماكرون – محمد بن سلمان إلى تسوية تأتي بخليفةٍ لفريق الحريري يعيد تقديم معادلة تجمع الرياض وباريس لدعم مشروع الدولة ولجم تغوّل الدويلة أم أنّ جمهورية الطائف ستسقط لصالح جمهورية الولي الفقيه؟