«راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه… كان الخطوة النجمة
ومن المحيط إلى الخليج كانوا يعدون الرماح
وأحمد العربي يصعد كي يرى حيفا ويقفز…
أحمد الآن الرهينة، تركت شوارعها المدينة وأتت إليه لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط كانوا يعدون الجنازة… وانتخاب القصلة»
محمود درويش
حتى نتمكن من فهم عمق الواقع في كارثتنا الوطنية، علينا أن نبدأ بواقع أنّ الدول الشقيقة والصديقة، والبعيدة والقريبة، وحتى تلك المصنّفة بخانة الأعداء، تحكمها كلها سياسة واحدة هي المصلحة. والمصلحة هي توازن دقيق بين الاقتصاد والسياسة والأمن، تدخل عليها أحياناً عوامل هامشية هي الثقافة وحقوق الإنسان والأخلاق. لكن تلك العوامل تبقى شديدة الهشاشة ويمكن تجاهلها وغضّ النظر عنها، من دون اعتذار أو أسف، بمجرد تعارضها مع المصالح. فالأخ والصديق والحليف يصبح عدواً عند تضارب المصالح، أو عند المنافسة على المكاسب، كما أنّ العدو قد يغضّ الطرف عن عداوته عند تقاطع المصالح أو تطابقها، ويمكن أن يتحول عندها العدو إلى حليف أو صديق، في مواجهة أخ السابق!
من يظن أنّ في الكلام مبالغة فما عليه إلّا النظر إلى الماضي السحيق والقريب كما الحاضر، ويستنتج أنّ هذه المعادلة هي حتماً ما سيحكم المستقبل القريب والبعيد. فصراع الإخوة على الحكم والمال والسلطة كان القاعدة الدائمة في التاريخ، والاستثناء كان من النوادر. وانقلاب الأحلاف بين الأفراد والجماعات والدول كان دائماً قاعدة الأساس في العلاقات، ونادراً ما كانت الأخوة والأخلاق والمبادئ هي الحكم. فلا يتنطح أحد اليوم ليقول إنّ الماضي الجميل كان أرحم أو أقلّ ظلامة على الضعيف والمسكين، أو أنّ الغدر هو فقط من نتاج العصر الحديث.
حتى الدول الغنية والديموقراطية والحليفة لم تمنعها من الغدر بحليف لصيق، مثلما حصل اخّيراً في صفقة الغواصات الاسترالية بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، ولم تصطلح العلاقات إلّا بعد أن وُعدت فرنسا بالتعويض، في مكان ما!
كانت استاذتي في الأدب العربي في الجامعة الأميركية، ألبروفسورة وداد القاضي التي أذكرها دائماً بالخير، تقول بأنّه لو كانت الخصال الحميدة والمروءة ونجدة الملهوف هي ما كان سائدًا في أيام العرب، لما تغنّى بها الشعراء. فالتغني يكون بما هو نادر، أو بما هو مرتجى، وليس بما هو سائد كقاعدة عامة. على هذا الأساس، فإنّ الشعر والمقامات لا يمكن أن يكونا قاعدة حرفية لفهم التاريخ.
فرنسا مشكورة بشدة لجهود رئيسها لإنقاذ لبنان، ولكن لا بأس إن كانت تلك الجهود مصحوبة بتسويات من تحت الطاولة مع مصالح فرنسا، على ضفتي الخليج المتنازع على إسمه ما بين عربي وفارسي، رغم أنّ التسمية بهذا أو ذاك لم تغيّر شيئًا في معالم المواطن المسقط على الضفتين اللتين تحكمهما الأساطير والروايات عن التاريخ السحيق والقريب. لكن المؤكّد، على الرغم من الأساطير، أنّ ما حَكَم تلك الحقبات هو تقاطع وتضارب المصالح، حتى ولو تمّ تمويهها بلباس المبادئ والعقائد والهدى. فالصراع على السلطة والنفوذ هو أساس الافتراق في الرؤى التي تحوّلت مع الزمن إلى مقدّسات لا جدال فيها وفي صحة حدوثها في زمن ما أو حقبة ما، ومن ثم تشحذ حدّتها المصالح بتقاطعها أو تضاربها، حتى وإن أتت معطيات كافية وواضحة لتنفي صحة هذه الروايات تاريخياً.
ما لي من جديد أسرح في كل الأماكن، قبل أن أطرق باب الموضوع؟ لكن العودة إلى دروس الماضي تفتح الذهن على احتمالات الحاضر والمستقبل، لفهمها وأخذ العِبَر، على أمل تفادي الوقوع في شرك الأوهام.
سمعنا جميعًا البيان السعودي- الفرنسي الأخير، مرفقًا بدفتر الشروط المستحيل حول إصلاح علاقات لبنان مع دول الخليج، بالرغم من أنّ حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية هو مطلب لبناني قبل أن يكون سعودياً، ووقف التنّمر من قِبل «حزب الله» على اللبنانيين والعرب بشكل عام، حاجة لبنانية قبل أن تكون خليجية، ووقف التهريب وتصدير الإرهاب هو أقصى آمال اللبنانيين المتضررين حتى عظامهم المنخورة بالفقر واليأس وقلّة الحيلة وفقدان الشقيق وافتقاد الصديق الجاد والفاعل. فعلى من تُقرأ إذًا مزامير البيان السعودي- الإيراني؟ أللحكومة الميقاتية؟ أم للرئيس العوني وولي عهده؟ أم لمجرد رفع العتب عن الفرنسي الباحث عن بدائل عن صفقة الغواصات الاسترالية، على ضفتي الخليج المصاب بانفصام الشخصية والهوية؟
في نادرة تشبه وضعنا، يُقال إنّ شخصًا ما أُدخل إلى المصحة العقلية لكونه مصاباً بوهم أنّه حبة قمح منسية على الأرض، وأنّ هناك دجاجة آتية لتأكله. بعد علاج مرير بالعقاقير وبالصدمات الكهربائية والتحليل النفسي، اقتنع الشخص بأنّه ليس حبة قمح، لكنه طلب من الطبيب أن يقنع الدجاجة بألّا تأتي لتأكله، على أساس أنّها ما زالت تحسبه حبة قمح، ليس لها حصاد يلمّها عن الأرض.
نحن اقتنعنا بمندرجات البيان الفرنسي- السعودي بما خصّ القرارات الدولية 1701 وخصوصاً 1559، ونرفض استهداف المملكة بالصواريخ، ونشجب شتائم نصر الله المتكرّرة نحو إخوتنا في الخليج، ونعتبر كل عمل عسكري للحزب خارج، لا بل داخل حدود لبنان، عملاً إرهابيًا، ونطالب من له القدرة والنية لوقف التهريب في الرمان أو التفاح أو البرتقال، بمختلف أشكاله، أن يُنزل بالمهرّبين المجرمين أشدّ العقاب.
نحن اقتنعنا أيها الأشقاء والأصدقاء، لكن من سيُقنع الدجاجة؟