IMLebanon

تسابق الاتّفاقات أو تكاملها

 

في الأسبوع الفائت، ظهر جليّاً على قائد محور المُمانعة في لبنان السيد حسن نصر الله خلال إطلالاته الاعلامية الكثيفة في الفترة الاخيرة، تفاجؤه بالإعلان عن توقيع الاتفاق السعودي- الايراني، ولكن ومن منطلق مكانته المهمّة لدى النظام الايراني، فمن المنطقي الاعتقاد بأنّ هذا التفاجؤ لم يكن بسبب عدم توقّعه لإحتمالية عقد هاتين الدولتين إتفاقاً في ما بينهما، بل نتيجةً لإنتظاره نوعاً آخر من الاتفاقات الإقليمية والدولية، وبشروطٍ أخرى.

 

فالنظام الايراني الذي يسعى منذ سنوات إلى اتفاقاتٍ تُعطي مشروعه التوسّعي المال والقدرات والنفوذ، والامكانات الضخمة تدعيماً لأذرعه الأمنية المنتشرة داخل دول المنطقة، أقدم على التوقيع على اتفاقٍ مليء بالبنود التي ستلتفّ على عنقه لتخنق مشروعه التوسّعي. إنّ المفاجأة غير السارّة التي لحِقت بقيادة «حزب الله» تأتّت من الخشية من أهداف نصوص الاتفاق، التي إن احترمتها ايران، فستؤدّي إلى تقييد حركة منظّمتها وإلى الحدّ من إمكانياتها العسكرية، وستضع دويلتها التابعة لـ»الحرس الثوري الايراني» تدريجياً في وضعٍ صعب، وصولاً إلى طرح امكانية استمرار دورها، وهذا ما دفع بسيّد «حزب الله» للخروج، وبعد ساعاتٍ قليلة من إعلان الاتفاق، إلى الاعلام بتصريحٍ يهدف من خلاله إلى طمأنة وتهدئة خواطر القواعد والأركان. ولكن، رغماً عن كلّ محاولاته البائسة لتفسير بنوده على غير القصد منها، فشروط الاتفاق وأهدافه تُعاكس تماماً المشروع التوسّعي الايراني وتضع الضغوطات الكبيرة على النظام الايراني الذي بنى كامل استراتيجيته في منطقة الشرق الاوسط على ايديولوجية التوسّع وإلغاء الآخرين وعدم إحترام سيادات الدول.

 

إنّ عدم نجاح ايران بنيل اتفاقٍ آخر مع قوى أخرى في المنطقة، أو نيلها إتفاقاً آخر مع السعودية بشروطٍ مريحة لأعمالها العدائية، يفرض تبنّي معادلةٍ لا يمكن التهرّب منها، وقوامها «عدم الامتثال لاتفاقات الكبار من قبل المُلحقات تجعل منهم معرقلين مكشوفين وفاقدين للحظة التسوية وخارجين الى ساحة التصفيات».

 

إتفاق تاريخي

 

تكثُر التحليلات وتتكثّف التفسيرات حول اتفاق تاريخي أبصر النور منذ أيام عدّة، والذي لم يكن ليتمّ لو لم تختلّ أسس النظام الايراني، وتتسارع الأحداث الشعبية في ايران وتظهر الانشقاقات في قيادة النظام، وتتراكض القوى الدولية والاقليمية للبحث بواقعٍ جديد وتغيّراتٍ كبيرة متوقّعة نتيجة مستجدّات تداعي نظام شكّل في السنوات الأربعين الماضية المحور الاستراتيجي الأخطر في منطقة الشرق الاوسط. ولأنّ القوى الدولية والاقليمية تعلم مدى خطورة التغيير، إن حدث، وصعوبة السيطرة على الوضع، إن انفجر، فقد دفعت لعقد الاتفاقات الحافظة للقرارات الدولية ولترتيب الاجواء الاقليمية المُسهّلة لحساباتها. كما أنّ الاتفاق ما كان ليرى النور لولا حاجة قيادة المملكة العربية السعودية لأجواء الإستقرار في المنطقة التي تُناسب رؤية قيادتها الإعمارية والاقتصادية والسياحية والتطويرية، والانفتاحية، حكماً.

 

تُقدم الدول الاستراتجية على التوقيع على إتفاقات في ما بينها بعد أن يكون كل طرف منها قد حقّق نوعاً من توازن القدرات، ببعض الحالات، أو توازن الرعب، في أوقاتٍ أخرى. وتسعى الأطراف من خلال الاتفاقات لتحقيق مكاسب لمصالحها، ولذا تأتي شروط الاتفاقات ضامنة بشكل نسبي لمطالب الدول الموقّعة عليها، وتُدرك قيادات الدول الاستراتيجية بأنّ للاتفاقات مدّة صلاحية وفعالية مُحدّدة، وأن التغيّرات التي تستجدّ تدفع مستقبلاً لإلغاء الاتفاقات أو على الأقلّ لتعديلها. شروط الاتفاقات هي صنيعة المفاوضين ونتاج قدراتهم المناوراتية وبُعْد نظرهم، وتقديرهم للتوازنات والشروط المتبادلة، وفي الحالة السعودية – الايرانية، أتت الشروط بكاملها لصالح النظرة السعودية للمنطقة، ما أزعج قيادة المحور الإيراني في لبنان، لأنّ نوعية الاتفاق وبنوده وإنعكاساته المتوقّعة من إحترام نصوصه هي المسألة الجوهرية التي يجدر النظر فيها، كما معاكسته لبنود الاتفاق الذي كثُر الكلام حوله في السنوات الماضية، أي الاتفاق النووي الاميركي- الايراني مع مندرجاته ومؤثّراته، يُشكّل حقيقة مُلفتة. فالاتفاق النووي كان ذا طابع عسكري وأثمان نفوذية، أمّا الاتفاق السعودي – الايراني فذو طابع تصالحي ونتائج استقرارية.

 

تأخير المسار

 

إنّ التأخير الذي شهده مسار المفاوضات حول الاتفاق النووي، إن كان الهدف منه إفساح المجال لترتيب العلاقات بين المملكة العربية السعودية والنظام الايراني، فذلك دليل كاف على النيات الدولية والاقليمية للتكامل بين الاتفاقين، ويشي بأنّ الايجابيات ستنعكس رويداً رويداً استقراراً وهدوءاً على كامل منطقة الشرق الاوسط، وبطبيعة الحال تفكّكاً للمنظّمات غير الشرعية والخارجة عن سيادات الدول. أمّا اذا كان التسابق بين الاتفاقين هو الواقع، فهذا يعني أنّ الاتفاق سيكون بحاجةٍ لحماية ولعناية ولإختبار نوايا، وبفترةٍ قصيرة جداً، لأنّ عدم الالتزام به سيكون بكامله لصالح النظام الايراني.

 

السؤال المطروح حالياً، والذي لا نملك الإجابات الدقيقة حوله، هو، هل أنّ المنطقة مقبلة على فترة استقرار وارتياح، فتحاً للمجال امام المشاريع العمرانية والتطويرية والاستثمارية، أم أنّنا سنشهد شيطنةً لبنود الاتفاق وتلاعباً بنصوصه وتذاكياً على شروطه، وتحريكاً لجبهاتٍ هادئة منذ فترةٍ؟؟؟

 

وبالعودة للشعب اللبناني الذي تستمرّ معاناته وينتظر الخلاص بلهفةٍ غير عابئ من أي زاويةٍ أو مبادرةٍ او اتفاقٍ يأتي، فيهمّه معرفة مدى إنعكاس الاتّفاقات الاقليمية والتفاهمات الدولية على ملفّاته المعيشية وعلى حياته وكرامته الانسانية وأمواله وودائعه، ويهمّ الاطراف السياسية اللبنانية المُعارضة لأداء المحور الايراني في لبنان، مدى التأثير الايجابي للاتفاق على نضالها لتحرير الدولة من سطوة «الحرس الثوري الايراني»، وإبعاد لبنان عن حسابات المشاريع التوسّعية الإقليمية، إفساحاً في المجال أمام عودة بناء الدولة لتُصبح قادرةً على المعالجات الجذرية لكافة المسائل والازمات الاقتصادية والمالية اللبنانية.

 

والمسألة الأهمّ بالنسبة للخط السياسي السيادي أن يتبوّأ الحكم في لبنان رئيس جمهورية ذو مواصفاتٍ واضحة ورؤية اصلاحية وسيادية، مستعدّ للتعاطي مع الأزمات اللبنانية من منطلق التموضع الرافض لاستمرار مشروع دويلة «حزب الله» العسكرية والأمنية على حساب دولة اللبنانيين، ولديه الشجاعة لمحاربة الفساد وكشف الغطاء عنه، الكامن في منظومة السلطة، وإنهاء مُسبِّبات الهدر والافلاس والمآسي والإنهيارات الناتجة عنها. وتنظر هذه القوى السياسية المناهضة لـ»حزب الله» والمُطالبة أصلاً بفصل لبنان عن الحسابات والصراعات الاقليمية، الى الإنعكاس الايجابي لبنود الاتفاق على السيادة اللبنانية، بدءاً من وقف التهريب على الحدود الشرقية والشمالية، واستتباعاً بانتظام مؤسّسات الدولة تطبيقاً للقوانين.

 

وبالنهاية، تتسابق الاتفاقات وتتزاحم التفاهمات، وتتنوّع حسابات الموقّعين استفادةً من شروطها، ويتموضع كلّ طرف في المكان الذي يقطُف به ولا يُقطَف منه، ولذا، وفي الاتفاق الذي نتناول فصوله الآن، فمن المتوقّع أن يعمد النظام الايراني الى أن يستمدّ استمراريته منه، وأن يتهرّب من الالتزام ببنوده، وأن يُراهن على قدراته الامنية لإسكات قواعده الشعبية، التي تصرخ من الوجع، وأن تُصمّ آذانه عن آلام الناس، ريثما يقطفون من خيرات الطرف الآخر من الاتفاق، والى أن نلتقي مع إتفاق آخر وآخر، علينا كلبنانيين أن نتصرّف كمواطنين لوطنٍ عانى الكثير من حسابات الآخرين على أراضيه، ولا خلاص له الّا بالحسابات اللبنانية المشتركة، والحياد اللبناني الذكيّ.

 

(*) عضو تكتّل «الجمهورية القويّة»