تبدّلت مقاربة الاستحقاق الرئاسي بعد الاتفاق السعودي-الإيراني عمّا كانت عليه قبل هذا الاتفاق، وهذا المعطى الجديد ليس هامشياً ولا ثانوياً، إنما سيفرض إيقاعه بشكل أو بآخر على لبنان والدول العربية الخاضعة للنفوذ الإيراني.
حوّل الاتفاق السعودي-الإيراني وحتى إشعار آخر ساحات النفوذ المشتركة بينهما من حيِّز المواجهة إلى حيِّز التفاوض، ما يعني انّ المسرح اللبناني خرج من لعبة تسجيل النقاط إلى صياغة التفاهمات، ويستحيل ان يكون الاستحقاق الرئاسي خارج هذه التفاهمات، إنما يشكل الاختبار الأول والأسهل للرياض وطهران معاً، فيما السياق المنطقي للأمور يَفترض توصّلهما إلى مساحة رئاسية مشتركة لا تظهر فيها اي دولة بأنها سَجّلت نقطة على الأخرى، ومن هنا يُصبح من البديهي استبعاد ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية لأنه معروف انّ «حزب الله» يريده بقوة ولم يأبه حتى لخسارة علاقة تحالفية مع فريق بوزن «التيار الوطني الحر» بسبب تبنّي فرنجية، ويرفض ان يطرح أي بدائل عنه، وهذا الإصرار يجعل من انتخابه انتصاراً لإيران على حساب السعودية، فيما رئيس «المردة» لا يخجل أساساً بتموضعه ولا بتاريخه بأنه في صلب الخط الممانع، ما يعني انّ انتخابه يعني انتصار خط الممانعة وانكسار الخط السيادي، وكل المقايضات بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة لا تصحّ لمجموعة أسباب، أهمها ان إدارة المعركة من قبل الحزب حوّلت ترشيح فرنجية إلى عنوان المعركة، ولم يعد يهمّ من يكون رئيس الحكومة المقبل.
وطالما يُدرك «حزب الله» بأنّ ميزان القوى الداخلي لا يسمح له بانتخاب فرنجية، والميزان الخارجي مُقفل من الباب السعودي في مواقف معلنة وبُلِّغت لجميع المعنيين، فلماذا يتمسّك بهذا الخيار؟ هناك احتمالان لا ثالث لهما يمكن الحديث عنهما:
الاحتمال الأول: من أجل ان يعزِّز أوراقه الرئاسية التفاوضية، فيتشدّد لانتزاع الموافقة على المرشّح الأقرب لتوجهاته بعد فرنجية، ولن يكشف عن أوراقه قبل الوصول إلى لحظة الحسم، وسيراهن على تعب الجميع والوضع «التعبان» للسير بمطلق أي مرشّح، وبالتالي كل هذا التشدُّد بغية ان يكون له الحصة الأكبر من الرئيس المقبل.
الاحتمال الثاني: كونه يريد رئيساً مضموناً 100/100 في مرحلة تحولات كبرى في المنطقة بدأت مع الاتفاق السعودي-الإيراني، والذي سيجعله يتشدّد أكثر فأكثر خشية من تبدلات جوهرية في دوره تضطرّه إلى تراجعات وتنازلات يريد استباقها برئاسة موثوقة لا تلين أمام الضغوط ولا تبدِّل في توجهاتها مع تبدُّل ميزان القوى.
ولكن ماذا لو طلبت طهران من الحزب التراجع رئاسياً كرسالة حُسن نية من قبلها حيال السعودية؟ سيضطر بالتأكيد إلى التراجع على غرار تراجعه عن موقفه الترسيمي للحدود البحرية، إلا انه يُحتمل ان يكون هذا الجانب بالاتفاق مع مرجعيته الإيرانية كحجة لضمان وضعيته السياسية في المرحلة الانتقالية، اي انه يريد ضمانات سلطوية تشكل غطاءً للتراجعات السلسة التي سيُقدم عليها بدءاً من خروجه العسكري من سوريا، وصولاً إلى مقاربة إشكالية سلاحه ودوره، شأنه شأن الحوثيين وأذرع إيران العسكرية في المنطقة.
ولا ريب بأنّ «حزب الله» مُرتاب من المرحلة الجديدة، خصوصا بعد ان ظهر في الترسيم وفي الاتفاق بين السعودية وإيران انه ليس في موقع الشريك في القرارات الاستراتيجية، وانه يتفرّد في لبنان بقرارات تكتيكية فقط، إنما الملفات الكبرى المتعلقة بالصراع مع إسرائيل والعلاقات مع الرياض وواشنطن والملفات الكبرى هو في موقع المنفِّذ لا المقرِّر.
وعلى المقلب الآخر فإنّ المعارضة ليست في وارد القبول بفرنجية الذي تحوّل انتخابه إلى غالب ومغلوب، وفرملة الانهيار غير ممكنة سوى بتسوية رئاسية في الداخل على غرار تسوية «الدوحة» وحكومة الرئيس تمام سلام وانتخاب العماد ميشال عون ولكن بمعايير مشددة أكثر هذه المرة بفِعل التجربة أولاً وحجم الانهيار ثانياً، فيما وقف الانهيار مستحيل على أرض منقسمة عمودياً، كما انه مستحيل من دون السعودية الرافضة انتخاب فرنجية.
وعلى رغم الانطباع السائد بأنّ الاتفاق السعودي-الإيراني سيرخي بظلاله الإيجابية التي تؤدي إلى الانفراج الرئاسي، إلا ان هذا الاتفاق دفعَ المعارضة والممانعة على حد سواء إلى مزيد من التشدُّد في موقفهما لاعتبارات مختلفة، حيث انّ المعارضة وجدت في هذا الاتفاق فرصة لإعادة التوازن السياسي إلى الدولة ولن تفرِّط بالمومنتم الذي سيمنع على طهران التعطيل ووضعها تحت المجهر، بل ستحاول الاستفادة من هذا المعطى الجديد، الذي أقرّ برفض التدخُّل في شؤون الدول الداخلية، من أجل تعزيز المشروع السيادي-الإصلاحي، فيما الممانعة تريد ان تستبِق بدء تنفيذ هذا الاتفاق من خلال الإمساك برئاسة الجمهورية التي تشكل الضمانة على مستوى السلطة التنفيذية لـ6 سنوات مقبلة، خصوصاً ان التغيير بالتوازن الخارجي سينعكس في الداخل اللبناني، ومن الواضح ان الممانعة تريد ان تُبقي مفاعيل هذا التغيير خارج إطار المسرح اللبناني.
وفي حال أصرّ «حزب الله» على موقفه الرئاسي ولم تتدخّل معه طهران، فهذا يعني ان الأخيرة تريد ان تكون ساحة الاختبار مع السعودية في اليمن لا لبنان، وذلك ليس من منطلق التصعيد، إنما تجنباً لتغيير التوازن في مسرح استراتيجي للغاية ويفوق بأهميته المسرح اليمني انطلاقاً من أضلع مثلثة:
الضلع الأول يتعلّق بـ”حزب الله” كأقدم وأول وأبرز ذراع عسكرية في الثورة الإسلامية، فالحزب يدرِّب الحوثيين لا العكس، ولن يكون من السهل التخلي عن استثمار كبير وضخم بالوقت والمال بهذه السهولة.
الضلع الثاني يرتبط بالصراع مع إسرائيل الذي يشكل ورقة مهمة لطهران تعزِّز أوراقها التفاوضية ولا يتأمّن ربط النزاع مع تل أبيب سوى من خلال ذراعها العسكرية في لبنان.
الضلع الثالث يتصل بالموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا التي تشكل الجسر بين بيروت وطهران، وهناك حاجة لتدعيم هذا الجسر من لبنان والعراق خوفاً من استفراد النظام السوري وتجنباً لنظام خصم لمحور الممانعة، وبالتالي تطويق سوريا من خلال «حزب الله» في لبنان والحشد الشعبي في العراق يشكّل حاجة استراتيجية.
وفي مطلق الحالات دخلت المنطقة في حقبة جديدة يصعب معها تحديد مساراتها واتجاهاتها بدقة، خصوصاً انّ النقاط الأهم في الاتفاق السعودي-الإيراني، وفق مصدر سعودي، هي سرّية، ما يعني انّ المعلن من الاتفاق هو جزء بسيط من المضمر، كما انّ الاتفاق حصل نتيجة إصرار إيراني وبرعاية صينية ضامنة لتنفيذه، فضلاً عن انّ الكلام عن مقايضات لا يصحّ كَون المطروح استقرار شامل على مستوى المنطقة، فإمّا ان تعدِّل إيران في طبيعة مشروعها كمصدِّر للثورة وعدم الاستقرار، وإما ان الاستقرار الجزئي في مساحة معينة سيسقط عند اول انتكاسة للاتفاق وتستعيد معها الأذرع المزعزعة للاستقرار دورها وتمدُّدها.
فلا يمكن تفسير موقف «حزب الله» الرافض التراجع عن دعمه لفرنجية سوى في سياق إما السعي إلى رفع نسبة أسهمه في الرئيس الجديد، وإما محاولة قطع الطريق مرحلياً على التغيير الآتي من باب الاتفاق السعودي-الإيراني، لأنّ مجرّد انتخاب رئيس ممانع يعني تأخير التغيير لولاية رئاسية جديدة او ان يحصل هذا التغيير في ظل سلطة صديقة لا خصمة او غير موثوقة، او التذاكي على الاتفاق من باب الضمانات، ولكن القرار المرجِّح في نهاية المطاف بيد إيران، وإذا كانت الأخيرة جدية في توجهاتها التغييرية فهذا يعني انّ الرئيس المقبل غير ممانع وغير مستفزّ للمانعة، ويبدأ معه استعادة مسار الدولة بعد انقلابٍ مُتماد بشقّيه السوري والإيراني بدأ منذ العام 1990 ولم ينته فصولاً بعد.