يرزح الشرق الأوسط ومعه لبنان تحت وطأة اختبار عاملين كبيرين، الاول متعلّق بالنزاع العالمي العريض بين الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها من جهة وبين الصين التي تقترب أكثر فأكثر من التحالف الفعلي مع روسيا، ومعهما ايران من جهة أخرى. امّا العامل الثاني فهو المتعلق بالاتفاق السعودي ـ الايراني وانعكاساته المرتقبة على الساحات التي خضعت لمنطق المواجهة العسكرية بين القطبين الاسلاميين السني والشيعي طوال السنوات الماضية.
بالنسبة الى العامل الاول فإنّ المعارك العنيفة الدائرة في اوكرانيا لا تبدو آيلة للتوقف قريباً، لا بل على العكس تماماً فالدبابات الثقيلة والاسلحة الجاري تزويد أوكرانيا بها من جانب الولايات المتحدة الاميركية ودول اوروبية حليفة، ما يؤشّر الى رفع مستوى التسليح، كلّ ذلك يوحي بوضوح أنّ الحرب طويلة وانّ حسابات التهدئة ليست متوافرة أقلّه في الفترة المقبلة. والواضح انّ تصاعد عنف الحرب في اوكرانيا سيساهم في إعادة بناء جدار فولاذي يفصل لعقود مقبلة بين روسيا والبلاد الاوروبية الصناعية والاقتصادية، اضافة الى «وظيفة» ثانية وكبيرة تؤديها هذه الحرب، وهي استنزاف وامتصاص القوة العسكرية الروسية واستنفاد قوتها الاقتصادية ايضاً.
لكنّ المؤشر الأهم هو اقتراب الصين من عتبة المساعدة العسكرية لروسيا. ذلك انّ بكين، التي لديها تنافس صامت ولكن عميق مع موسكو، قد تكون وجدت أن الحرب الاوكرانية أدت الى تراجع قدرات روسيا العسكرية والاقتصادية، ما يجعلها قريبة من القبول بالجلوس في حضن التنين الصيني، بعدما كانت تتصرف سابقاً على انها قطب عالمي في وجه واشنطن وانّ على الصين اللحاق بها لا العكس.
لذلك كانت القيادة الصينية تنتظر الوصول الى مرحلة تكون فيها روسيا قد خسرت كثيراً من عوامل قوتها من دون أن تسقط، ما يدفع الصين الى الدخول لمنع انتصار اميركي في اوكرانيا وهو ما يعني أنّ على العالم ان يستعد لِشكل جديد من أشكال الحرب الباردة بين واشنطن وحلفائها من جهة وبكين وحلفائها من جهة ثانية.
وتكفي الاشارة الى ما قاله وزير الخارجية الاميركية الاسبق هنري كيسنجر، والذي حقق الانفتاح الاميركي على الصين أيام رئاسة ريتشارد نيكسون، فهو اعتبر أنّ الحرب الباردة الجديدة بين بلاده والصين يمكن ان تتحول الى أكبر تحدٍ يواجه البشرية، لأنّ للبلدين القدرة على تدمير العالم. واضاف قائلاً: «أيّ صراع عسكري بينهما سيجعل العالم أسوأ مما كان عليه بعد الحرب العالمية الاولى».
واستطراداً، فإنّ هذا النزاع الكبير بات واقعاً في الشرق الاوسط ولو بعد دخول صيني «رشيق» أنتجَ مصالحة ايرانية ـ سعودية. صحيح أنّ هذا الدخول الديبلوماسي ـ السياسي الناعم لم يستفزّ كثيراً الحضور العسكري الاميركي الطاغي في المنطقة، لكنه أسّس لموطئ قدم يُعاكس السعي الاميركي لتطويق النفوذ الصيني وحصره، ويسمح لبكين في الوقت عينه بإقامة موطئ قدم في طريقها الى فرض نفوذها في افريقيا بالتماهي مع روسيا، والاقتراب من دول اميركا الجنوبية التي تعتبرها واشنطن بمثابة حديقتها الخلفية.
ومن هذه الزاوية يُفهم الاهتمام الاميركي العسكري المتزايد بالشرق الاوسط وبشواطئ البحر الابيض المتوسط وسواحله. أما العامل الثاني او «اتفاق بكين»، فعلى رغم من الخطوات المتلاحقة في إطار ترجمته على ارض الواقع، فما يزال من المُبكر بعض الشيء الحديث عن مرحلة جديدة في المنطقة. ذلك انّ الاتفاق في حاجة الى فترة اختبار جدية وحقيقية على رغم من الحماسة الظاهرة التي تتعمدها ايران. فعلى رغم من دعوات الزيارات التي تم تبادلها، الّا انّ الاوساط المتابعة ما تزال تصف العلاقة غامضة وفاترة، وانها ما تزال في حاجة الى فترة اختبار حقيقية وجدية.
وهنا تبدو الساحة اللبنانية إحدى ساحات الاختبار الفعلية لمقياس العلاقة بعد «اتفاق بكين». حتى الآن يبدو المنحى ايجابياً وسط معلومات تمّ تناقلها عن بدء المجموعات اليمنية الموجودة في الضاحية الجنوبية الاستعداد للمغادرة وإقفال وسائل تواصل اعلامي تابعة لها.
لكن ثمّة مسائل ابعد واكثر تعقيداً تُطاول الساحة السورية ايضاً. وكانت الرسالة الاميركية واضحة مع إصدار عقوبات في حق أقرباء للرئيس السوري بشار الاسد وطاوَلت ايضاً أحد اللبنانيين وآخر له امتداداته القوية في البقاع الشمالي. والعقوبات تم تبريرها بأنها تأتي في سياق تهريب المخدرات والكبتاغون، وهي المشكلة التي تحتل الاولوية سعودياً تجاه سوريا ولبنان.
وقبل رسالة العقوبات، كانت واشنطن قد تبادلت رسائل نارية مع طهران في شمال شرق سوريا، وهي المنطقة التي حظيت باهتمام رئيس أركان الجيوش الاميركية الجنرال مارك ميلي.
وارادت رسائل ايران النارية القول انّ ايران موجودة بثبات في هذه المنطقة التي تشكل لها مصلحة حيوية مباشرة، وانّ أي تسوية لا تلحظ مصالحها سيجري مواجهتها. أما رسالة الرد الاميركية والتي جاءت قوية فأرادت ان تقول على الأرجح انّ واشنطن لن تتساهل في اي مواجهات معها. فإيران كانت قد ضاعفت من عديد المقاتلين الموالين لها في منطقة دير الزور ليصل العدد الى نحو 15 ألف مقاتل.
أمّا كامل عديد الجيش الاميركي في شمال شرق سوريا فهو يُقارب الـ 900 جندي، لكن تؤازرهم قوات كردية، والتي تسيطر على مناطق واسعة شمال شرق سوريا. وقد أدّت الرسائل النارية مبتغاها، مع اعلان واشنطن انها لا تسعى الى صدام مع طهران.
لكنّ رسالة العقوبات قد يكون لديها مهمات اخرى، كمثل التروّي في خطوات التطبيع مع النظام السوري، والتخفيف مما تعتبره انجرافاً خليجياً في اتجاه دمشق. وهو ما يعني انّ اتفاق بكين غير كافٍ لإنضاج الحل في سوريا، خصوصاً انه ما يزال في مرحلة الاختبار وهو ما يعني ايضا انّ ظروف التسوية في لبنان لم تكتمل بعد، وانّ «الطبخة» في حاجة الى مزيد من الوقت والنار ولا بأس من إنهاك القوى اللبنانية اكثر. وهذا هو التوصيف الذي يمكن إعطاؤه لزيارة مساعدة وزيرة الخارجية الاميركية بربارة ليف الى لبنان. وفعلياً لم تحمل هذه الزيارة اي جديد، لكن لا بد من التوقف امام معنى إدراج لبنان محطة في جولتها، رغم انّ برنامجها لم يلحظ زيارات لعواصم لها علاقة وتأثير على الواقع اللبناني. غالب الظن انّ إدراجها بيروت كآخر محطة في برنامج زياراتها هو للقول ان لبنان ليس منسياً لكنّ ملفه ليس موضوعاً على الطاولة بعد.
ويتطابق هذا الكلام مع فشل المبادرة التي حاول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تسويقها حيال لبنان، مع معارضة سعودية معلنة واخرى اميركية ولكن ضمنية.
ولذا أيضاً لن تعقد الدول الخمس اجتماعاً لها في المدى المنظور، وسط تمسّكها بما كان تم الاتفاق حوله سابقاً.
في الواقع ما يهمّ واشنطن من لبنان في المرحلة الراهنة هو أن لا ينفجر امنياً، خصوصاً انّ مناعته الاقتصادية والحياتية اصبحت شبه معدومة، وهو ما اراد صندوق النقد الدولي دق ناقوس الخطر حياله.
وبالتالي، فإن الاولوية هي في اتجاه المحافظة على الحد الادنى من الاستقرار الامني وسط الظروف الصعبة جدا التي يمر بها اللبنانيون، والمرشحة لأن تزداد مستقبلاً.
اما حول الاستحقاق الرئاسي، فإنّ واشنطن تدرك أن ظروفه الجدية لم تحن بعد، اذ من السذاجة فصله عن كامل التبدلات الحاصلة في المنطقة، ولو انها ستبقى متمسكة بالمواصفات التي وضعتها حول رئيس أثبتَ من خلال ممارساته أنه غير فاسد وغير مُحاط بفاسدين، ولديه القدرة على توحيد اللبنانيين وقيادتهم في اتجاه مرحلة الاعمار واعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية وان يشكّل فريق عمل متكامل مع الحكومة ورئيسها، لا ان يستعمل مجلس الوزراء حلبة نزاع لتأمين مصالحه الخاصة ومصالح الطبقة السياسية. وبالتالي، قدرة السلطة على إنجاز الاصلاحات المطلوبة وان يكون خصوصاً يحوز على ثقة العواصم الدولية والعربية التي ستساعد لبنان اقتصادياً ومالياً، وايضاً سياسياً ومعنوياً في المحافل الدولية.
وبالتالي، جاءت زيارة المسؤولة الاميركية لِتلخّص في وضوح عنوان المرحلة، بأنّ الحلول ستشمل لبنان، لكن ليس الآن. أضف الى ذلك انّ الملف اللبناني بات يخضع لتأثيرات اخرى داخل مؤسسات صناعة القرار في واشنطن والمقصود هنا مجلس الامن القومي ووزارة الدفاع، قبل ان يتّخذ البيت الابيض القرار. والسبب واضح، وهو انّ النظرة العسكرية والامنية هي الغالبة في الشرق الاوسط، ما يستوجِب مساحة رأي أوسع لأصحاب الاختصاص.