المشكلة الرئيسية للأزمة اللبنانية سيادية، وبما أنّ حلّ هذه المشكلة يتوقّف على التطورات الخارجية، فلماذا لا يكون أحد أدوار رئيس الجمهورية الربط مع الاتفاق السعودي-الإيراني لتنفيذه بشقه اللبناني؟
أدخل الاتفاق السعودي – الإيراني المنطقة في مرحلة جديدة ستنعكس على دول المنطقة كلها، لأنه بقدر ما كان النزاع يُترجم بعدم استقرار، فإنّ التفاهم سيُترجم بترسيخ الاستقرار، وهذا من الأمور البديهية باعتبار انّ دينامية المواجهة تُقحِم المنطقة بمواجهة، ودينامية الحوار والتبادل الديبلوماسي تُفضي إلى وقف الاشتباك بالحد الأدنى، وإبرام التفاهمات والتسويات بالحد الأقصى.
وعلى رغم صعوبة تقدير مدى صمود هذا الاتفاق وكيفية تطوّر مراحله، إلا انّ هناك خمسة عوامل أساسية يجب أخذها في الاعتبار:
العامل الأول: انتقال المنطقة من التسخين إلى التبريد، الأمر الذي سينعكس حكما على أوضاع الدول التي تتأثر بالدور الإيراني الحائل دون قيام دول فعلية، ولم يعد من السهولة بمكان على طهران الساعية وراء التطبيع ان تعكِّر صفو الاستقرار في المنطقة، خصوصا ان دينامية التسخين مولِّدة للتسخين ودينامية التبريد مولِّدة للتبريد.
العامل الثاني: الراعي الصيني الذي من مصلحته الاستراتيجية ان يُبرهن قدرته على تحقيق ما عجزت الولايات المتحدة عن تحقيقه، وبالتالي سيضع ثقله لإنجاح دوره ورعايته للتفاهم السعودي-الإيراني، كما يعني ان خروج طهران مثلاً عن الاتفاق سيعرِّض علاقتها مع الصين إلى الاهتزاز والسقوط.
العامل الثالث: الحاجة الإيرانية إلى استراحة محارب، ولم تنتقل بعد طبعاً إلى مرحلة التخلي عن استثمار طويل بالأمن، ولكن من الواضح انها بحاجة إلى وقف اشتباك وإطلاق نار، فإمّا تكون جولة من الاستراحة لتستعيد بعدها التقاط أنفاس مشروعها التمدّدي، وإما جولة لإعادة النظر بطبيعة مشروعها الذي وصل إلى طريق مسدود ولم تنجح بإقامة اي نموذج يستهوي الشعوب بدءاً من الشعب الإيراني.
العامل الرابع: الحاجة السعودية للاستقرار في المنطقة بهدف مواصلة استثمارها بالاستقرار والحداثة، وقد نجحت في تطويق إيران بتفاهمات مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الاوروبي وتركيا واحتضان الدول العربية كلها، وتقود مشروعا طموحا حوّلها إلى دولة إقليمية صاعدة وبتحالفات دولية وثيقة، ولم تعد عملياً إيران في موقع المنافس الجدي لها.
العامل الخامس: تعامل السعودية مع الاتفاق ليس من باب العلاقة بينها وبين إيران، إنما من باب دورها المرجعي والقيادي على مستوى العالم العربي، وهنا مَكمن قوة دورها بقيادتها المشروع الإقليمي العربي، وتفوّقت على إيران وتركيا وإسرائيل، فضلاً عن إدراكها ان الاستقرار لا يتأمّن بالقطعة بل بالجملة، ولا يتحقّق في دولة محددة إنما في المنطقة كلها.
وما تقدّم يفيد بأنّ المنطقة دخلت في حقبة جديدة، ومن الخطيئة ان يبقى لبنان خارجها، لأن مشكلته الأساسية تكمن في تدخُّل إيران في شؤونه الداخلية، ولن تنحلّ هذه المشكلة قبل ان تسلِّم ذراع إيران في لبنان سلاحها وان تنتظم تحت سقف الدولة والدستور، ومن هذا المنطلق بالذات يجب ان تكون الصفة الأساسية للمرشّح الرئاسي في موازاة صفتي السيادة والإصلاح قدرته على الشبك مع الاتفاق السعودي-الإيراني وان تكون مهمته الأساسية التنسيق مع المملكة انطلاقاً من عضوية لبنان في جامعة الدول العربية بهدف ترجمته على أرض الواقع في لبنان.
فلا يمكن أن ينأى لبنان بنفسه عن الاتفاق السعودي-الإيراني، لأنّ «حزب الله» أقحَمه في سياسة المحاور، وأي نأي بالنفس يعني إبقاء لبنان تحت الهيمنة الإيرانية، وهناك فرصة تاريخية اليوم لإخراجه من هذه السياسة عن طريق الشراكة مع السعودية من باب هذا الاتفاق ودور لبنان في تنفيذه.
وأهمية هذه اللحظة ان إيران لا يمكنها الاعتراض علناً على دور لبناني من ضمن هذا الاتفاق، علماً ان من مصلحتها ان تحصر اتفاقها مع السعودية، ولكن البيان المعلن للاتفاق تحدّث عن دول المنطقة كلها ورفض التدخُّل في شؤونها، ومن الواجب الوطني اللبناني الانتقال من سياسة الحياد إلى سياسة الاقتحام، لأنّ هناك من رفض ويرفض الحياد، ويستحيل وضعه عند حدّه سوى عن طريق ان يكون لبنان في قلب الاتفاق السعودي-الإيراني.
والبند الأول لأي رئيس جمهورية يجب ان يكون في الربط مع المملكة واستطرادا مع الاتفاق، لأن لا شيء يعلو على البعد السيادي الذي يستحيل ان يتحقّق من الباب الداخلي او الرئاسي او الحواري، ولو بدّا تشتّي على هذا المستوى كانت غيّمت، والفرصة التي أُهدرت مع مومنتم خروج الجيش السوري من لبنان بإحالة القرار 1559 على الحوار الداخلي من غير المسموح ان تُهدر مع الاتفاق السعودي-الإيراني.
فالمعيار الذي يجب إدخاله على الانتخابات الرئاسية هو المعيار الذي استجد مع الاتفاق السعودي-الإيراني، أي ربط البعد الداخلي مع البعد الخارجي، لأنّ السيادة لن تتحقّق من البعد الداخلي من دون الخارجي، والإصلاح لن يُنجز من الباب الداخلي من دون المدخلين الخارجي والسيادي، وبالتالي الوضعية اللبنانية برمتها مرتبطة بالمنحى الذي ستأخذه الأمور في تنفيذ الاتفاق بين الرياض وطهران.
ولا يُخفى على أحد ان فريق الممانعة يريد انتخاب رئيس من صفوفه بهدف تجميد الوضع اللبناني لولاية رئاسية منعاً لأي تغيير يطال الواقع في البلد كونه يُدرك بأنّ الاتفاق السعودي-الإيراني سيطال لبنان ويمتد إليه. وبالتالي، يريد محاولة النأي بالبلد عنه وتحييده، الأمر غير الممكن سوى برئيس من صفوفه يتذرّع بخصوصية الواقع اللبناني وتطبيق ما يتناسب مع هذا الواقع.
وليس عن عبث يتمسّك الفريق الممانع بالمؤسسات الدستورية التي تمسّك بها قبله النظام السوري من أجل أن تأتي المطالبة ببقاء الجيش السوري في لبنان من السلطات الدستورية تحت شعار «شرعي وضروري ومؤقت»، فتأتي المطالبة ببقاء سلاح «حزب الله» من السلطات الدستورية نفسها بحجّة انّ هذا السلاح يشكل مصلحة للبنان ونقطة قوة له.
فلا يمكن للبنان ان يحقِّق هدفه بالتغيير سوى بالاتكاء على مومنتم تغييري خارجي، وكل الاستعدادات الداخلية ومراكمة ميزان القوى الداخلي وحشد الواقع النيابي والسياسي والشعبي الهدف منه ملاقاة لحظة التغيير الخارجية، وفي حال تفويت هذه اللحظة يبقى لبنان ضمن ستاتيكو الممانعة، وهناك محطة شبيهة اليوم بمحطات 1982 و1989 و2005 وفي حال خسارتها يبقى وضع البلد على ما هو عليه من دولة تغطّي الدويلة.
ومعلوم ان الممانعة تراهن دائماً على عامل الوقت لتربح معاركها وجولاتها، وتُدرك جيدا ان المنطقة تنام على تطوّر وتصحو على آخر، وتريد تمرير قطوع الاتفاق السعودي-الإيراني من دون ان تُقدم على اي تنازل يُذكر في لبنان، كما انها تتجنّب ان تكون في الواجهة، فتضع رئيساً وسلطات دستورية تتولى المهمة عنها.
فلبنان أمام فرصة قد لا تتكرّر سوى بعد سنوات او عقود، وأوضاعه لم تعد تحتمل لا مالياً ولا سياسياً ولا شعبياً، ولم يعد يحتمل الترقيع والتأجيل والتسويف، إنما بحاجة لحلول جذرية تُخرجه من نفقه المظلم، والفرصة تتمثّل بالاتفاق السعودي-الإيراني وضرورة ملاقاته لبنانياً من خلال انتخاب رئيس للجمهورية يتولى مع رئيس الحكومة والحكومة مهمة تولّي تنفيذ مندرجات الاتفاق بشقّه اللبناني سعياً لتسريع وتيرة حسم ازدواجية السلاح التي تشكّل وحدها المدخل لخروج لبنان من فضاء الممانعة وعودته إلى الفضاء اللبناني.