Site icon IMLebanon

فرصة الحزب الرابعة والأخيرة

 

 

فوّت «حزب الله» ثلاث فرص متتالية لقيام دولة طبيعية في لبنان: الأولى مع اتفاق الطائف، والثانية مع الانسحاب الإسرائيلي، والثالثة مع الانسحاب السوري. فهل يفوِّت الفرصة الرابعة مع الاتفاق السعودي – الإيراني؟

 

يتحمّل «حزب الله» مسؤولية هدر 33 عاماً من عمر اللبنانيين الذين من حقهم عيش حياة طبيعية بعيدة من العنف وعدم الاستقرار، وقد استفاد من انشغال عواصم القرار العربية والغربية باجتياح الرئيس صدام حسين للكويت من أجل وضع اليد على لبنان، محتفظاً بسلاحه الإقليمي خلافاً لاتفاق الطائف الذي تمّ الانقلاب عليه بشقّه السيادي الأساسي، فيما شكّل هذا الاتفاق فرصة لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة والثقة بين اللبنانيين.

 

وارتكزت سردية «حزب الله» كلها على ما اصطلح بتسميته «المقاومة ضد إسرائيل»، وبعد انسحاب الأخيرة من لبنان لاعتبارات داخلية، اخترع الحزب مزارع شبعا السورية التي لم يؤكّد حليفه النظام السوري لبنانيتها رسمياً بعد، وانتقل من نظرية ما يُسمّى بالتحرير إلى ما يسمّى بتوازن الردع، فيما شكّل الانسحاب الإسرائيلي فرصة لأن يسلِّم سلاحه وينخرط في مشروع الدولة، ولكن حساباته الإقليمية التي لا يدخل لبنان كدولة ضمنها، حالت دون تسليم هذا السلاح.

 

وما يجدر ذكره، انّ الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من لبنان فتح معركة تحرير لبنان من الاحتلال السوري، وهو الأخطر على لبنان بسبب سيطرته على مفاصل الدولة اللبنانية كلها، ولولا هذا الانسحاب لما كان هناك إمكانية لفتح هذه المعركة بحجة عدم جواز المطالبة بخروج الجيش السوري قبل خروج الجيش الإسرائيلي. وفي غضون أربعة أشهر على هذا الخروج أطلق البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير معركة إخراج الجيش السوري، وبعد خمس سنوات خرج من لبنان تحقيقاً لهدف كان بمثابة حلم في مواجهة نظام اعتقد انّ وجوده في لبنان تحوّل إلى أبدي وسرمدي.

 

ومع خروج الجيش السوري أطلّت الفرصة الثالثة لـ»حزب الله» بأن يسلِّم سلاحه ويتصالح مع الفكرة اللبنانية والشعب اللبناني، ولكنه فعل المستحيل لوراثة نظام الأسد، من خلال إمساكه بمفاصل الدولة الاستراتيجية، ودخل لبنان في حقبة من الاغتيالات والحروب وتعطيل المؤسسات واستمرار العنف الذي بدأ منذ ما قبل اتفاق القاهرة.

 

وبعد 18 سنة على خروج الجيش السوري، ما زال لبنان ساحة عنف، ولم يتمكّن «حزب الله» من وضع يده على لبنان كله، ولن يتمكّن بفعل تركيبته التعددية التي لا تسمح لمذهب بأن يسيطر على المذاهب الأخرى ويفرض عليهم ثقافته ومشروعه، ولم يتعِّظ من استحالة تحقيق أهدافه، وما زال يحاول فرض انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل سلطات دستورية تشكّل الغطاء لسلاحه ودوره الإقليمي.

 

وعلى رغم الطابع الأهلي للنزاع اللبناني، إلّا انّ ارتباطات بعض فئاته بالخارج أدّت إلى تعقيد الحلول وتصعيبها، بدءاً من الثورة الفلسطينية، مروراً بالاحتلال السوري، وصولاً إلى الثورة الإيرانية التي أدّت إلى إقفال الحلول من الباب اللبناني، وجعلت اي حلّ مدخله هزيمة هذه الثورة او تغيير دورها من مزعزع للاستقرار والتدخُّل في شؤون الدول الداخلية، إلى نفوذ سياسي يحترم سيادة الدول ودساتيرها.

 

ومن هذا المنطلق تحوّل الاتفاق السعودي-الإيراني إلى بارقة أمل، وأصبح الرهان على هذا الاتفاق لإنهاء الدور الإقليمي الأمني والعسكري والثوري لطهران، وبدأت طلائعه بالظهور في اليمن، ومع هذا الاتفاق تلوح في الأفق الفرصة الرابعة لـ»حزب الله» من أجل ان يسلِّم سلاحه، خصوصاً انّ الهدف الجوهري للاتفاق معالجة الدور الإيراني من جذوره، اي بالجملة، ولو انّ الحلول ستكون بالمفرّق من خلال معالجة ملف تلو الآخر. والفارق بين الفرصة الرابعة والفرص الثلاث التي أُهدرت، يكمن في الثلاثية التالية:

 

أولاً، المؤازرة التي تلقّاها «حزب الله» بين عامي 1990 و 2000 من جيش الاحتلال السوري في ظل تقاسم نفوذ سوري وإيراني للساحة اللبنانية، والرهان الخاطئ على لبننته في العام 2005 بأنّ الخروج السوري سيدفعه إلى تسليم سلاحه بناءً على هذا التطور الكبير، فيما لم يعد اليوم من مؤازرة سورية ولا أوهام لبننة وما شابه.

 

ثانياً، وصول جميع من في الداخل والخارج إلى قناعة باستحالة حلّ الأزمة اللبنانية من دون حلّ إشكالية سلاح «حزب الله» ودوره.

 

ثالثاً، الانهيار الكبير الذي انزلق إليه لبنان كوّن قناعة بأنّ لا فائدة من حلول ترقيعية ومؤقتة. إذ بعد ان وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه، لم يعد هناك من شيء يمكن خسارته بعدم الذهاب إلى تسويات، كل الهدف منها ان يشتري «حزب الله» الوقت ويعيد ترتيب أوضاعه على حساب أوضاع البلد.

 

فما بين الدفع السعودي الخارجي لشرق أوسط جديد قائم على الاستقرار، وما بين الدفع اللبناني السيادي لحسم ازدواجية السلاح، يمكن الحديث عن انطلاق دينامية جديدة في المنطقة ولبنان، ولكن لا مؤشرات إلى انّ «حزب الله» في وارد مواكبة التوجُّه الجديد وصولاً إلى تسليم سلاحه، فيما أقصى ما قد يُقدم عليه، التهدئة السياسية التي تذكِّر مثلاً بأدواره بعد الخروج السوري من لبنان وبعد اتفاق الدوحة وبعد انتخاب العماد ميشال عون، اي تهدئة ما يلبث ان ينقلب عليها.

 

فلا يجب توقُّع أكثر من تسوية رئاسية جديدة، ما زال يحاول «حزب الله» الدفع لانتخاب مرشحه الرئاسي، ولم ينتقل بعد إلى التفاهم على مرشح لا يمثِّل تحدّياً لأحد، وحتى لو وصل إلى هذا الخيار انطلاقاً من قناعة أو ضغط، فإنّ السقف الذي يمكن ان يحكم المرحلة ليس أبعد من فترة استراحة بين جولتين من المواجهات التي ستتواصل فصولاً ما لم يسلِّم الحزب سلاحه، ولكنه لن يسلِّم هذا السلاح، ومصير الفرصة الرابعة لن يختلف عن مصير الفرص الثلاث التي أُهدرت.

 

وأي مقاربة موضوعية للتطورات الإقليمية تفيد بأنّ لبنان لن يبقى حالة استثنائية على المناخ التوافقي الذي تتسارع وتيرته في المنطقة، ولكن حدوده لن تتجاوز في المرحلة الحالية حدود التسوية الرئاسية التي تشكّل مصلحة مباشرة لـ»حزب الله» ولو تخلّى فيها عن مرشحه الرئاسي، لأنّ التهدئة السياسية تشكّل مطلباً من مطالبه، من أجل ان يعيد ترتيب أمور البلد مالياً تحت سقف سلاحه، لأنّ الأزمة المالية تحولت إلى عامل ضاغط عليه ليس فقط داخل بيئته، إنما الأساس على مستوى عدم قدرته على الخروج منها من باب الدولة التي يمسك بمفاصلها، وفي ظل خشيته من ان يضطر إلى تقديم تنازلات سياسية لأخصامه مقابل الخروج من هذه الأزمة.

 

والمصلحة العليا للمعارضة تكمن في رفض أي تسوية رئاسية من دون تنازلات جوهرية من «حزب الله» تقود إلى إطلاق مسار الدولة قدماً، والمقصود طبعاً ليس تسوية على مرشّح الحزب غير المتوافرة ظروفه الداخلية والخارجية، إنما رفض انتخاب مرشّح وسطي لمجرّد الانتخاب، لأنّه من دون سلّة شروط تبدأ بانتخاب رئيس لا يتأثر بموازين القوى يعني إمداد الحزب بالاوكسيجين من دون مقابل سيادي وإصلاحي يحصِّن مشروع الدولة، كما يعني انّه سيتحيّن الفرصة الأولى للانقضاض على التسوية، فيما المصلحة العليا تقضي بمقايضة الخروج من الانهيار بخطوات إصلاحية جدّية وليس بانتظام دستوري يستفيد منه الحزب لا البلد. وخلاف ذلك استمرار الشغور يبقى الخيار الأفضل..