نقل الاتفاق السعودي – الإيراني المنطقة من المواجهة من دون سقوف، إلى الكباش السياسي تحت سقف اتفاق بكين. من الخطأ الاعتقاد انّ الاتفاق السعودي-الإيراني انتهى مع توقيعه في بكين، كما من الخطأ الاعتقاد أيضاً انّ أزمات المنطقة ستحلّ بكبسة زر، فيما الأصحّ هو انّ هذا الاتفاق نقل المنطقة إلى مرحلة جديدة ستكون الجهود منصَبّة فيها على تطوير التفاهمات والعلاقات بين الرياض وطهران من جهة، وتبريد ساحات الصراع في اليمن والعراق وسوريا ولبنان من جهة أخرى.
والفارق الأساس بين مرحلة ما قبل الاتفاق وما بعده يَكمن في الحرص الإيراني والسعودي المتبادل على معالجة خلافاتهما بالحوار وليس في خلفية تسجيل النقاط، إنما معالجتها تحت سقف التفاهم وفي ظل قناعة مشتركة بضرورة الوصول إلى الحلول المطلوبة.
ومن الواضح انّ إيران تنطلق في مقاربتها من خلال التمييز بين استعدادها الكامل لتطوير العلاقة الثنائية مع السعودية، وبين رفضها التخلّي عن أوراق قوتها في المنطقة بحجّة انّ هذه الأوراق لا تُحرّك من طهران إنما تشكل جزءاً من خصوصية الدول الموجودة فيها، بمعنى انّ «حزب الله» لديه تمثيله البرلماني ووضعيته الوطنية، والنظام السوري لا يمكن القفز فوقه، والحشد الشعبي والميليشيات العراقية هي انعكاس لصورة المجتمع العراقي، والحوثي هو ابن البلد، وهكذا دواليك…
فالقيادة الإيرانية تقول ثلاث جمل أساسية: الجملة الأولى مُضمرة، وهي انه لا يمكن مقارنة «حزب الله» في لبنان بمنظمة التحرير الفلسطينية، فالحزب مكوِّن من مكونات البلد. والجملة الثانية معلنة وهو تأييدها للمقاومة. والجملة الثالثة انها تدعم التوافق بين اللبنانيين وترفض التدخُّل في الشؤون اللبنانية، وما ينطبق على لبنان ينسحب على الدول الأخرى، بمعنى تحجّجها بفلسفة الخصوصيات التي تميِّز كل دولة عن أخرى ولا يمكن تجاهلها.
وهذه الجمل الإيرانية مناقضة للدستور اللبناني والشرعية الدولية، فأن يكون «حزب الله» مكوناً لبنانياً لا يعني ان يتسلّح ويصادر قرار الدولة بحجة المقاومة، والمشكلة ليست في هوية المكوِّن الذي يدعي دور المقاومة، إنما المشكلة كلها تكمن في انّ هذا المكوِّن يصادر قرار الدولة ويُبقي لبنان ساحة، ولا فارق إطلاقاً بين منظمة التحرير والنظام السوري و»حزب الله»، فالنتيجة نفسها مع هذه القوى الثلاث لجهة تغييب الدولة والدستور والاستقرار، وما همّ اللبنانيين أساساً من هوية الفريق الذي يُبقي وطنهم مساحة غير مستقرة، إنما همهم إعادة لبنان مساحة مستقرة، الأمر غير الممكن قبل إنهاء ازدواجية السلاح.
وتُدرك طهران انّ تأييدها لما يسمّى بمقاومة في لبنان يشكّل تدخلاً في الشؤون اللبنانية خلافاً لما تدّعي، ومواقف وزير خارجيتها تشكل نسفاً لاتفاق بكين الذي نصّ على احترام المواثيق الدولية ورفض التدخل في شؤون الدول الداخلية، لأنّ احتفاظ «حزب الله» بسلاحه هو انقلاب على الدستور اللبناني والقرارات الدولية، وهذا السلاح يشكل انقساماً عمودياً بين اللبنانيين ومجرّد تأييد إيران لاستمراره يعني تأييدها لفريق ضد آخر وتدخلها إلى جانب فريق ضد آخر.
وليس تفصيلاً انّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بدأ زيارته من مطار بيروت مُشدداً على «دعمه القوي للشعب والجيش والمقاومة»، واختتم زيارته من مارون الراس مؤكداً «دعمه المقاومة في وجه الاحتلال»، وما بين المحطتين كشفه انه خلال اللقاء مع السيد حسن نصرالله والسيد زياد نخالة (الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين) «فهم انّ محور المقاومة مُصمِّم على قلب المعادلة بشكل يكسر شوكة العدو».
ولا حاجة للتذكير بأنّ زيارة عبد اللهيان هي الأولى من نوعها بعد الاتفاق السعودي-الإيراني، وهذا يعني رسالة واضحة وعلنية في اتجاهين: باتجاه «حزب الله» أولاً من أجل تطمينه بأن لا تغيير في مقاربة إيران لمسألة المقاومة ودورها، وباتجاه السعودية ثانياً بأنّ سلاح الحزب غير قابل للنقاش، ولم يكن وزير الخارجية الإيراني مضطراً إلى هذا الكَم من المواقف والاستعراض لولا انّ هناك إرادة بتوجيه رسائل واضحة، وهذه الرسائل صادرة عن رأس الديبلوماسية وليس عن أي مسؤول آخر، اي عن الشخص المفترض فيه أن يزين عباراته بدقة، وبالتالي ما الحاجة مثلاً للكلام عن معادلة «جيش وشعب ومقاومة» لم يعد المسؤولون في «حزب الله» يرددونها باستثناء أنه تَقصّد ذلك كي لا تحمل رسائله المتعلقة بتمسّكه بدور الحزب أي التباس؟
وبالتوازي مع زيارته بشقها «المقاوم» المؤيّد فيها علناً وجهاراً لما يقوم به «حزب الله» كترجمة للتوجُّه الإيراني، فإنه تَقصّد بالشق السياسي عدم إظهار التطابق مع حارة حريك، فوَسّع دائرة لقاءاته من جهة، ودعا إلى التوافق بين اللبنانيين في الاستحقاق الرئاسي من دون ان يتبنّى مرشّح الحزب من جهة أخرى، كما دعا إلى عدم التدخُّل الخارجي في الشأن اللبناني واعتباره انّ الانتخابات الرئاسية شأن لبناني داخلي، أي انه يرفع مسؤولية طهران عن الشغور ويوجِّه رسالة إلى عواصم القرار بأنّ دولته لن تتدخّل مع الحزب ليبدِّل في موقفه الرئاسي، بمعنى عدم مُفاتحته عربياً وغربياً للضغط على الحزب.
فالمواقف التي أطلقها عبد اللهيان بالشقين «المقاوم» والسياسي يمكن ترجمتها بمعادلة الثابت والمتحرِّك، اي انّ سلاح «حزب الله» ودوره من ثوابت السياسة الإيرانية، فيما الانتخابات الرئاسية مسألة متحرِّكة قابلة للمناورة السياسية والأخذ والرد، اي انّ طهران تَتشدّد في دور الحزب وتتراخى في الانتخابات الرئاسية، وبالتالي بالتوازي مع الرسالة الإيرانية المتشدِّدة في موضوع «المقاومة» يمكن ان تتنازل رئاسياً كرسالة حسن نية، فتكون زيارة عبد اللهيان بهذا المعنى قطعت الطريق على أي بحث في دور ذراع طهران في لبنان، وفتحت الباب أمام تسوية رئاسية تُرضي بها الرياض والعواصم المهتمة بلبنان.
فالخرق الرئاسي ممكن، ولكن الخرق الاستراتيجي مستحيل، ومواقف عبد اللهيان من لبنان تشكّل أول خرق للاتفاق السعودي-الإيراني، وتؤشّر إلى كيفية مقاربة إيران لهذا الاتفاق لجهة تمييزها بين السعي إلى أفضل العلاقات مع السعودية والتبريد معها في الساحات كلها، وبين الحفاظ على أذرعها في المنطقة على ما هي عليه والسعي إلى تسويات لا تمسّ بطبيعة هذه الأذرع ودورها، ما يعني انّ طهران تريد تثبيت المزاوجة بين الدولة والميليشيا، فيما أظهرت هذه المزاوجة استحالة الرهان على استقرار وازدهار وإصلاح وحداثة.
أمّا الرياض فليست في وارد إطلاقاً تثبيت المزاوجة بين الدولة والميليشيا، ولكن لكل اتفاق بداية وانطلاقة ولا يمكن تَوقُّع نتائج سريعة ونهائية لصراع طويل وكبير ومتشعِّب، ما يعني انّ المنطقة دخلت في تبريد وحوار وتواصل تحت سقف الصراع الاستراتيجي، الأمر الذي سيُفضي إلى ترجمتين أساسيتين:
الترجمة الأولى تسويات لا غالب ولا مغلوب فيها في ساحات النزاع المشتركة، وبالترجمة اللبنانية انتخاب رئيس من خارج اصطفافَي المعارضة والموالاة.
الترجمة الثانية استمرار الكباش السعودي – الإيراني تحت سقف اتفاقهما في بكين ومُتمماته في لقاءاتهما المشتركة، فلا إيران في وارد التخلّي اليوم عن أذرعها التي استثمرت فيها طويلاً وتشكّل جزءاً من علة وجودها ودورها وعقيدتها، ولا السعودية في وارد التسليم بازدواجية الدولة والميليشيا التي تُبقي الدولة مصادَرة من قبل الميليشيا، وتُبقي المنطقة على حافة بركان عند أول اهتزاز لاتفاق بكين.
وعليه، فإنّ المنطقة مقبلة على تسويات تشكل بيئة مساعدة لترجمات الاتفاق السعودي-الإيراني، ولكن لا إيران تخلّت عن نظرتها التكاملية بين دور الجيش والحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية ومحاولة مَأسستها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ولا السعودية تخلّت عن نظرتها بضرورة قيام دول لا شريك لها من قبل ميليشيات وغيرها، وأيّ نفوذ لأيّ دولة يكون من طبيعة سياسية وليس تعطيلية لدور الدول وقرارها الاستراتيجي. ومن هذا المنطلق انتقلت المنطقة من المواجهة الساخنة إلى الكباش السياسي البارد تحت سقف الاتفاق، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ينقل هذا الكباش المنطقة مستقبلاً من تسويات مرحلية إلى تسويات نهائية تبدِّل في الدور الإيراني من عسكري إلى سياسي وتعيد الاعتبار للدور المرجعي والحصري للدول، أم يقود هذا الكباش إلى تطيير اتفاق بكين والعودة إلى المواجهة الساخنة؟