مع تحوّل الاتفاق السعودي-الإيراني ناظِماً للعلاقات الثنائية بين البلدين وعلى مستوى أدوارهما في المنطقة، لم يعد من السهولة بمكان فصل المواقف واللقاءات والتحركات لكل منهما عن سياق هذا الاتفاق، وفي هذا السياق بالذات حصلت زيارة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان للبنان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لسوريا.
المشترك بين الرسائل الإيرانية التي بدأت مع عبداللهيان في لبنان واستكملت مع رئيسي في سوريا، مع فارق أيام قليلة بين الأولى والثانية، هو التأييد المطلق والكامل للمقاومة في إشارة واضحة الى انّ ما بعد الاتفاق السعودي-الإيراني لم يختلف عمّا قبله، وكأن هذا الموضوع خارج إطار البحث بين الرياض وطهران.
فزيارة وزير الخارجية الإيرانية لم تُضف جديداً، والانطباع ان طهران تعمّدتها للقول ان اتفاقها مع الرياض لا يشمل دورها في النزاع مع إسرائيل، ولم يكن عبداللهيان مضطراً لولا الحرص على توجيه هذه الرسالة لأن يبدأ زيارته من مطار بيروت بالتذكير بمعادلة «جيش وشعب ومقاومة»، وان ينهيها من مارون الراس وهو يضع إكليلاً من الزهر على نصب قاسم سليماني بتأكيد على دعم بلاده الثابت للمقاومة، وان يلتقي ما بينهما الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله والأمين العام لـ»حركة الجهاد الإسلامي» زياد نخالة، وان يكشف انه فهم منهما «انّ محور المقاومة مصمّم على قلب المعادلة بشكل يكسر شوكة العدو»، وان يؤكد انّ «لبنان يحتل مكانة مؤثرة في المنطقة، وموجود في الخط الأمامي للمواجهة والمقاومة، وهو يحظى دائماً باهتمامنا».
وما ينطبق على مواقف وزير الخارجية الإيراني في لبنان ينسحب على مواقف الرئيس الإيراني في سوريا الذي شدّد على انّ «اليوم، أكثر من أي وقت مضى، باتت وحدة وتماسك قوى المقاومة والمنطقة والعالم الإسلامي ضروريّان للإسراع في هزيمة النظام الصهيوني، وإيران ستبقى إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم والمقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا وكل العالم، وهذه هي سياستها المؤكدة في الماضي والحاضر والمستقبل، وجبهة المقاومة اصبحت اليوم تياراً قوياً لن يتقهقر وساهمت في تغيير المعادلات في المنطقة، وهذا الأمر بات واضحا للعيان، والشعب السوري اليوم وشعوب المنطقة على اقتناع بأنّ ايران باتت ركيزة قوية وشجرة شامخة أصلها ثابت، يمكن الاعتماد عليها والثقة بها».
والمواقف المشار إليها أعلاه ليست في حاجة الى شرح كونها تتحدّث عن نفسها ومفادها ان طهران ثابتة في دعم أذرعها في المنطقة تحت عنوان مواجهة إسرائيل، وان المتحوِّل الوحيد يتعلّق بتحييد السعودية والتبريد معها، ولكن لا تغيير في دورها الخارجي، والمتضرِّر الأكبر من هذا الدور هو لبنان، كَون دعمها لـ»حزب الله» يأتي على حساب الدولة اللبنانية التي يستحيل ان تستعيد مقوماتها في ظل سلاح خارجها يُصادِر دورها الاستراتيجي.
ولا يمكن ان يُفهم من توقيت زيارتَي عبداللهيان ورئيسي سوى وجود إصرار على توجيه رسالة مُثلّثة: الأولى إلى السعودية بأنّ أذرع إيران خارج إطار البحث والتفاوض، والثانية إلى المجتمع الدولي بأنّ الاتفاق السعودي-الإيراني لا يشمل دور الأذرع، والثالثة إلى الأذرع نفسها من أجل تطمينها الى انّ طهران ثابتة في دعمها أمس، اليوم، وغداً، خصوصا ان بيئة هذه الأذرع كانت في حاجة إلى تطمين بعد هذا الاتفاق والكلام انه سيشملها عاجلا أم آجلا، فجاء الردّ والتطمين الإيرانيين من لبنان وسوريا.
فالاتفاق السعودي-الإيراني بالنسبة إلى الثانية ينحصر في ثلاثة جوانب: التبريد مع المملكة وتطوير العلاقات الثنائية معها، وَقف أنشطة الأذرع العسكرية والأمنية والإعلامية ضد المملكة، والسعي مع الرياض لتسويات بين الأذرع وخصومها في الدول التي لكليهما نفوذ فيها.
وما تقدّم يفيد ان الأزمة اللبنانية ما زالت على حالها، وان ما بعد الاتفاق هو كما قبله، وان جُلّ ما هو معروض على اللبنانيين معالجة أزمتهم تحت سقف سلاح «حزب الله»، ما يعني تسويات جزئية تعالج قشور الأزمة من دون معالجتها جذرياً، لأن استمرار ازدواجية السلاح يُبقي دور الدولة ومؤسساتها وقطاعاتها معلّقاً، الأمر الذي يستدعي التفكير جديا بحلول من خارج العلبة كون هذا الوضع سيحكم الواقع اللبناني الى أمد طويل.
وهذا يعني بالحدّ الأدنى ان لا حلول سريعة للأزمات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، إنما مجرّد تسويات مؤقتة تتطلّب مواصلة التعايش بين مشروعين مختلفين جذرياً على أرض واحدة، وان حدود الاتفاق السعودي-الإيراني اليوم لا تتجاوز التهدئة والسعي إلى هذه التسويات، الأمر الذي يعني استمرار النزاع بين هذه المشاريع ولكن هذه المرة تحت سقف اتفاق إقليمي يريد إبقاء الأمور مضبوطة وتحت السيطرة.
فالمختلف بين وضع ما قبل الاتفاق وما بعده هو الإرادة بالتهدئة إقليمياً، ما ينعكس تهدئة في الساحات المشتركة التي ستبحث عن صيَغ تعايش تُعيد لهذه الدول استقرارها، ولو هشّاً، والدولة انتظامها، ولو شكلاً، اي نسخة محدّثة ومتطورة عن تسويتَي الدوحة في العام 2008 والرئاسة في العام 2016، اي ستكون أفضل نسبياً بسبب المناخ الإقليمي الذي دخل في أجواء من التهدئة تُظلِّل التسويات في هذه الدول، الأمر الذي لم يكن قائماً في التسويتين السابقتين، اي استمرار الوضع الذي أعقَبَ خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005.
وحيال هذا الوضع فإن القوى التي تسعى لقيام دولة فعلية وطبيعية كأي دولة في العالم مدعوّة الى العمل ضمن استراتيجية مزدوجة:
ـ الاستراتيجية الأولى، مواصلة المواجهة التي بدأت مع انتفاضة الاستقلال، والمساحة الأساسية لهذه المواجهة بعد خروج الجيش السوري من لبنان هي الدولة في ظل سعي «حزب الله» إلى استنساخ تجربة النظام السوري بإحكام قبضته على هذه الدولة، وسَعي القوى السيادية إلى مَنعه من السيطرة على الدولة ورفع تأثيره عنها.
وأهمية هذه الاستراتيجية انها تمنع الممانعة من استخدام مؤسسات الدولة لتصفية حساباتها مع خصومها على غرار النظام السوري الذي كان يُصفِّي حساباته مع كل مَن يعارضه مِن خلال الدولة اللبنانية، ما يعني انّ المعارضة مطالَبة بمزيد من المُراكَمة نيابياً بهدف تحسين شروط مواجهتها على الدولة مع الممانعة، إذ بمقدار ما تمدّ القوى السيادية نفوذها داخل الدولة، بمقدار ما ينحسر نفوذ الممانعة داخل هذه الدولة.
ـ الاستراتيجية الثانية، البحث جدياً وفي الغرف المغلقة في أفكار من خارج العلبة لحلول مستدامة للأزمة اللبنانية في اعتبار انّ المواجهة الكلاسيكية خدمت عسكريّتها وأظهرت بعد 18 سنة صعوبة قيام دولة بسلاح واحد، وأن التعايش بين منطقين لا يُقيم دولة واستقرارا وازدهارا، وان لا مؤشرات إلى انّ إنهاء ازدواجية السلاح سيتمّ قريباً، كما ان الرهان على التطورات الخارجية قد يأتي وقد لا يأتي. والاحتمال الثاني هو الأرجح، وبالتالي حيال كل ما تقدّم من مؤشرات سلبية من مسؤولية القوى السيادية التفكير خارج العلبة بِهَدف وضع خريطة طريق سياسية جريئة لإنهاء التعايش القسري بين مشروعين لا مشتركات بينهما سوى مساحة جغرافية في عالمٍ لا نهائيات فيه سوى أولوية الإنسان ورفاهيته.