يترصّد كثيرون مقدار التنازل الذي ستقدّمه المملكة العربية السعودية في مفاوضاتها الدائرة حالياً مع الحوثيين، لأنّ الاتفاق السعودي- الإيراني في اليمن سيكون جزءاً من «سلّة» مقايضات عربية واسعة، ستشمل لاحقاً العراق وسوريا ولبنان. وسيكون السؤال فيها: أين ستتنازل الرياض وأين ستتنازل طهران؟
يقول أحد الديبلوماسيين، إنّ الاتفاق الذي عُقد في آذار الفائت بين السعودية وإيران يتعاطى معه الطرفان باعتباره ركيزة تفاهم استراتيجي لا يمكن التراجع عنه. ويضيف ممازحاً: «لا نعرف إذا كان الزواج في بكين قد تمّ على الطريقة السنّية أو الشيعية، لكن المؤكّد هو أنّه زواج عقل، وسيدوم طويلاً، ولو بدا مترنحاً في بعض الأحيان أو المواقع. وتحت سقفه، سيتمّ «استيلاد» تسويات وأنظمة على مستوى الشرق الأوسط».
لقد وجد السعوديون والإيرانيون على السواء أنّ أمامهم مكاسب كثيرة يمكن تحقيقها بالتفاهم لا بالتصارع. وتعتبر القيادة السعودية الجديدة أنّ القوى الإقليمية والدولية استثمرت فترة الصراع لاستنزاف طاقات المملكة، بل ابتزازها تحت شعار أنّ هناك «غولاً» إيرانياً يريد ابتلاع الخليج والعالم العربي عموماً. ومن أجل مواجهته، لا بأس بالرضوخ للقوى الدولية وشراء الأسلحة بمئات مليارات الدولارات.
وتحت شعار المواجهة مع إيران، تورطت المملكة طوال عقود في بؤر القتال المفتوحة في العالم العربي، وأهدرت مواردها، فيما القوى الدولية بقيت تتفرج وتقيم خطوط التفاوض والتفاهم مع إيران وتهادنها في كل مكان.
حتى إنّ المملكة فوجئت بأنّ القوى الدولية الحليفة لم تقف إلى جانبها في أخطر فصول المواجهة مع طهران وحلفائها، ولاسيما عندما تعرّضت لضربات أمنية خطرة في عمق مرافقها الاقتصادية الحيوية خلال حرب اليمن. وشعر السعوديون حينذاك بأنّهم متروكون وحدهم، على رغم التعهدات بالدعم. ولذلك، اتخذوا قراراً بأخذ مصيرهم بأيديهم، وعدم الركون إلى وعود أي كان.
في الجهة المقابلة، تعتبر إيران أنّ تفاهمها مع الرياض، بما تمثله من وزن عربي وإسلامي، يشكّل فرصة لا يمكن تفويتها. وتدرك إيران أنّ موازين القوى على رقعة الشرق الأوسط ترجِّح تفوُّقها: من اليمن في الخليج إلى الشاطئ اللبناني على المتوسط. وإنّ أي تسوية تتوصل إليها مع السعوديين أو حلفائهم في أي بقعة ستكون راجحة لمصلحتها، لأنّ مقاييس الربح والخسارة تعبّر دائماً عن واقع موازين القوة.
في تقدير طهران أنّ السعوديين هم الذين كانوا أكثر حماسة واستعجالاً للاتفاق معهم، إذ لا بديل آخر أمامهم. ولذلك، هم سيخوضون المفاوضات بمرونة أينما كان.
وفي نظر طهران، هدف السعوديين الأساسي محصور بضمان استقرارهم الداخلي وإطفاء الحريق في اليمن، حديقتهم الخلفية. وأما العراق وسوريا ولبنان والمناطق الأخرى من العالم العربي، فستكون المملكة فيها مستعدة للتنازل.
ويعتبر الإيرانيون أنّ تكليف بكين رعاية الاتفاق مع المملكة كان «ضربة معلم»، لأنّه تكفّل برفع مستوى التوتر بين الرياض وواشنطن، ورفع رصيد طهران لدى الصين، باعتبارها ركيزة موثوقاً فيها على بقعة الشرق الأوسط.
لكن ما حصل هو أنّ إدارة الرئيس جو بايدن تداركت هذه الفجوة الإقليمية الخطرة وأعادت جذب الرياض من الحضن الصيني. وظهرت ثمار التدخّل الأميركي في المواقف الأخيرة للقيادة السعودية ومشاركتها في قمّة العشرين في نيودلهي، حيث تمّ التوقيع على إنشاء الممر الاقتصادي نحو أوروبا.
ولكن، في الموازاة، لا يبدي السعوديون أي استعداد للانسحاب من الاتفاق الذي عقدوه مع جيرانهم. حتى إنّ الولايات المتحدة لم تضغط عليهم لتحقيق هذه الغاية. وعلى العكس، من مصلحة الأميركيين أن يتمّ نزع الفتائل في الشرق الأوسط، لكن ما يريدونه تحديداً هو قطع الطريق على الصين.
وثمة من يعتقد أنّ التسويات التي ستحرص إيران على إبرامها في المنطقة تقوم على المعادلة الآتية: «خذوا الأمن، واعطونا السلطة». وترجمة هذه المعادلة ربما بدأت تطلّ من اليمن.
واستطراداً، يبدو أنّ هذا هو الاتجاه الذي يسلكه الوضع في لبنان، حيث الوعد بالاستقرار السياسي والأمني والمالي والاقتصادي يبدو مرهوناً بعملية القبض المتدرجة على السلطة، بمختلف وجوهها ومستوياتها.