Site icon IMLebanon

موقع بكين من الإتفاق السعودي – الإيراني: منصة أم أكثر؟

 

 

بعد أربعة أيام على الإعلان الثلاثي عن إعادة العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران يبدو واضحاً انّ القرار لم يفاجىء كثراً، خصوصاً العواصم التي كانت على تماس مع مسار المفاوضات بين الطرفين. ولكن المفاجأة التي ما زالت تتفاعل لماذا أعلن من بكين؟ وهل اختصرت الايام الاربعة من المفاوضات مسيرة سنوات منها شهدتها عواصم عدة؟ ولذلك ما هو دورها؟ وهل تجاوزت كونها «منصة» أم أكثر من ذلك؟

قبل الدخول في كثير من التفاصيل التي يحتملها حدث بهذا الحجم الذي أنهى فيه جانباً من النزاع السعودي ـ الايراني الذي تجلّى على أكثر من ساحة عربية واسلامية، حرصت مراجع ديبلوماسية واسعة الاطلاع بعد انتقاداتها لموجة القراءات الهمايونية والمنطقية التي سارعَ البعض الى إطلاقها على التريّث في الحكم على ما يمكن ان تشهده فترة التجربة التي نَص عليها الاتفاق ولمدة شهرين تحتسب ابتداء من الإعلان عنه في العاشر من آذار الجاري قبل الحسم بما يمكن ان تحمله التطورات في الأسابيع المقبلة.

وقالت هذه المراجع انّ البناء على مزيج من الرغبات والأمنيات لا يؤدي الى فهم ما جرى وما يمكن توقّعه. ومن الطبيعي ان يقوم كل طرف من الطرفين على اطلاع حلفائه على ما تمّ التفاهم في شأنه وما هو متوقع من خطوات، خصوصاً انّ اتفاقاً من هذا النوع لا يفيض عن إحياء العلاقات الديبلوماسية بينهما قبل الولوج الى مرحلة التسويات الممكنة لمقاربة الأزمات التي شكلت مادة نزاع بينهما. فلا يمكن ان يتجاهل المراقبون انّ هناك أزمات تفاعلت ونَمت بعدما جَنّدا للبعض منها قدراتهما العسكرية والديبلوماسية الهائلة. عدا عمّا هو قائم مِن تَشابك لا بد منه بين ما هو استراتيجي يتصل بمصالح كل منهما أو تَكتي يتصل بحجم وشكل ومضمون كل أزمة منها على حدة.

وقبل التسرّع في بناء السيناريوهات الخاصة بالأزمات التي ستطاولها المفاوضات بين الطرفين ويمكن ان تتأثر بالتفاهمات المقبلة، هناك مرحلة من إعادة الثقة في العلاقات بينهما وبناء الفريق الديبلوماسي الذي سيتولى إدارتها، والتي يجب ان يعاد بناؤها مجدداً لمقاربة الملفات المتشعبة والتي تفرض عودة كلّ منهما الى الاطراف الاخرى بما لها من أدوار في كل أزمة. فالقرار النهائي تجاه ما يجري في اليمن مثلاً او في العراق وسوريا ولبنان ليس لهما لوحدهما. هذا عدا عن الملفات التي كانت مدار بحث على مستويات إقليمية ودولية أوسع بكثير، كمِثل تلك التي ترعى الملف النووي الايراني وما يسمّى معالجة «أذرع» كل منهما وهي منتشرة خارج اراضيهما على امتداد العالم الإسلامي ودول اخرى، وهي مسألة تحتاج الى كثير من الجهد المطلوب مع شركائهما في كل المواجهات التي خيضَت ولفترات قد تقصر او تطول قياساً على حجم كل منها ومدى استعداد الأطراف الداخلية للتجاوب معهما والتفاهم على ولوج الطرق المؤدية الى معالجتها وطَيّها بكل تشعباتها الامنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية وربما الطائفية والعشائرية.

وبمعزل عن الدخول في كثير من التفاصيل المرتبطة بهذه الازمات التي لا يتّسع لها مقال، توقفت المراجع الديبلوماسية العليمة عند ضرورة البحث عن الظروف الإقليمية والدولية والمحلية التي قادت الطرفين الى اختيارهما العاصمة الصينية بكين موقعاً دولياً للإعلان عن الإتفاق الذي نسجت تفاصيله المعقدة على مدى سنوات عدة في أكثر من عاصمة عربية وغربية لعبت دور الوسيط، ولم تلحظ المواكبة الدقيقة لمسلسلها ايّ دور مباشر للصين قبل ان تستضيف عاصمتها مفاوضات الايام الاربعة الاخيرة التي أفضَت الى هذا التفاهم، والتي لا يمكن مهما كان جدول أعمالها مكثّفاً ان تنتج بديلاً ممّا كان موضع بحث طوال السنوات الماضية.

على هذه الخلفيات تتعدد السيناريوهات التي تتحدث عن الظروف والأهداف التي أدت الى الاعتماد على «الرعاية الصينية» للاتفاق. وهي وإن اجمعت بلا شك على انها لم تكن مجرد «مصادفة» بمقدار ما كانت وسيلة جمعت الطرفين السعودي والإيراني لتوجيه مجموعة من الرسائل التي أطلقت منها. وان كانت تحتمل تمييزاً كبيراً بين اهداف كل من الدولتين، فلكل منهما دوافعه وظروفه الطبيعية وفقاً لمعطيات لا يمكن تجاهلها. وإن كان من المستحيل الإعلان عن الإتفاق من الرياض او طهران في ظل القطيعة الديبلوماسية بينهما اختيرت بكين لهذه الغاية ولأسباب مختلفة. ويمكن الاشارة الى بعضها بالآتي:

– لربما قصدت المملكة بكين لتأكيد مضيّها في سياساتها الانفتاحية التي تجاوزت حصرية التعاطي مع الولايات المتحدة والدول الغربية في اتجاه كل من روسيا والصين في كل قطاعاتها الاقتصادية العملاقة، في إطار التحولات الجديدة التي عبّرت عنها رؤية ولي العهد للعام 2030 وتنويع قدراتها الصناعية في كل المجالات وتجاوز ما يستند الى الصناعات النفطية مهما تعددت، وولوج قطاعات عصرية تنقل المملكة الى آفاق لا حدود لها على اكثر من صعيد، وان الحديث عن استبدال الرعاية الاميركية او الأممية بالصينية، هو موضع تَشكيك فالمملكة كانت تستضيف مناورات عسكرية مشتركة مع واشنطن في حضور وزير دفاعها لمحاكاة طريقة مواجهة «الدرون» الايرانية بالتزامن مع مفاوضات بكين.
– أما من الجانب الايراني فلم يكن ممكناً ان تقبل طهران برعاية واشنطن أو أي عاصمة أخرى من تلك التي تلتزم العقوبات الأميركية القاسية المفروضة عليها ويجري تيويمها كل فترة. ولا يمكنها في ظل القطيعة مع عدد كبير من هذه الدول الكبرى ان تختار عاصمة أخرى غير بكين التي فكّت عزلتها منذ فترة باتفاقيات تستثمر بموجبها الصين عشرات المليارات من الدولارات في السنوات المقبلة عدا عن إصرارها على استيراد النفط الايراني في ظل القطيعة الدولية.

وإن كانت هذه الملاحظات غير كافية لتبرير التوجّه نحو بكين، فإنّ القراءة تحتمل كثيراً من التفاصيل الاخرى، والتي ما زالت تحتاج إلى ما يثبت قوة وجودها على الساحة الدولية. وإلى ان تظهر المعطيات الأكثر دقة يبدو السؤال المطروح: ما هي الضمانات الدولية التي يمكن لبكين ان تقدمها للطرفين اذا أخَلّ أحدهما بالإتفاق؟ وهل يمكن للصين الجديدة ان تكون بديلاً لطرفي النزاع من واشنطن او موسكو او اي قوة دولية اخرى أو أممية؟

وفي انتظار الاجوبة الشافية عن بعض هذه الاسئلة، يبدو جلياً ان اختيار بكين لا يوفّر لها القدرة الكافية على التغطية الدولية، أو لتلعب الدور الضامن للإتفاق من دون سواها من القوى الكبرى، لأنّ الضمانات المطلوبة للطرفين، ولِمَن يمكنه ان يستفيد أو يتضرر مما حصل، لا تستثني الأدوار الاميركية على الأقل وربما الروسية في جانب منها، لتتحوّل بكين الى لعب دور «المنصة» لا أكثر ولا أقل في انتظار ما يثبت العكس؟
هل يمكن للصين الجديدة أن تكون بديلاً من واشنطن على الأقل؟