المغزى السياسي الأساسي لزيارة رئيس مجلس النواب نبيه بري للعراق هو أنها تتقاطع مع المناخ العراقي الرامي إلى التقريب بين المملكة العربية السعودية وإيران. فالعراقيون واللبنانيون هم الأكثر تضرّراً من نزاعات المحاور، ويريدون أن يرتاحوا.
في نهاية الأسبوع المنصرم زار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي طهران. وهو يستعدّ لزيارة مماثلة للسعودية، خلال الشهر الجاري، بعد أيام من زيارة وفد سعودي على مستوى الوزراء ورجال الأعمال لبغداد.
ويحاول عبد المهدي تقريب وجهات النظر بين المملكة وإيران. وقد بدأت هذه الوساطة بزيارته للقاهرة في آذار الفائت. وهي تنطلق من رغبة العراق في أن يستعيد الثقل المعنوي، ما يسمح له بتحييد نفسه عن نزاع المحاور الإقليمية، بعدما دفع ثمنه غالياً.
اليوم، تتصرّف القيادة العراقية براغماتياً. هي لا تريد أن يكون العراق كاليمن، ساحة حربٍ مدمِّرة بين الإيرانيين والسعوديين. وعلى العكس، تريده ساحةَ جذبٍ وتنافسٍ إيجابي للقوتين الإقليميتين، ويستفيد منهما للإعمار واستعادة الموقع الإقليمي المفقود منذ العام 2003.
السعوديون والإيرانيون يتهافتون حالياً على تفعيل استثماراتهم في العراق، خصوصاً في مجالات إعادة الإعمار والبنى التحتية كالكهرباء والمواصلات. وقد أثار الهجوم السعودي الإيجابي في اتجاه العراق حفيظة طهران. لكن ما يطمئنها هو ثقتها في أنّ القيادة العراقية لن تذهب بعيداً في العلاقة مع الرياض، بما يخالف مصالحها.
أكثر من ذلك، تردّدت معلومات عن لقاء سعودي – إيراني غير معلن حصل في بغداد قبل شهر، على مستوى رسمي. وبناءً عليه، يلاحظ بعض المتابعين أنّ الحملات السياسية المتبادلة تراجعت إلى مستوى متدنٍّ، ولم يخرقها سوى انتقاد إيران للسعودية بسبب دعمها القرار الأميركي تصنيف الحرس الثوري الايراني منظمة إرهابية.
في هذه المسألة، العراق أكثر حكمةً من لبنان. فهو يخطط ببرودة أعصاب للحياد بين السعوديين والإيرانيين، على رغم من أنّ المعطيات التي تتحكّم به أكثر صعوبة. فهو على حدودٍ مع إيران تزيد عن 1450 كيلومتراً، وحدودٍ مع السعودية تقارب الـ840 كيلومتراً. فيما لبنان البعيد نسبياً في الجغرافيا يبدو أكثر تورُّطاً في النزاعات.
والتحدّي المطروح على لبنان هو الدخول مع العراق في «محور القوى المحايدة» إقليمياً. وتقليدياً، كان لبنان يحافظ على حدّ مقبول من الحياد. ولكن منذ أن اندلعت الحروب في سوريا والعراق واليمن، وتورّط فيها، إندفع لبنان تدريجاً إلى موقع آخر وبات عرضة لمخاطر داهمة.
وكما يتفهّم الإيرانيون خصوصية الموقف العراقي، فإنهم على الأرجح يتفهّمون الموقف اللبناني، إذا قرّرت بيروت انتهاج خط محايد. فالجميع يدرك أنّ هناك خصوصيات لبنان أكثر حساسية من خصوصيات العراق سياسياً وطائفياً ومجتمعياً.
وإذا كان الحيادُ ضرورةً سياسية للعراق، فإنه للبنان مسألة حياة أو موت. ومن هذه الزاوية، يصبح التلاقي العراقي – اللبناني على تكريس المحور الإقليمي المحايد خياراً حيوياً. ومن هذه الزاوية يمكن أن تتّخذ زيارة بري للعراق أهميتها.
ولكن، هل يجد الطرفان المعنيان، السعودية وإيران، مصلحة في التقارب؟ وإذا وجدا المصلحة، هل القوى الإقليمية والدولية ستدعم تقاربه أم تعمل لتعطيله؟
المتابعون يعتقدون أنّ إيران هي الأكثر حماسة للمصالحة مع السعودية. فهي تمنحها القدرة على مواجهة الخناق الأميركي المتنامي، بحيث تكون علاقاتها مع العرب هي المتنفَّس سياسياً واقتصادياً.
وعلى الأرجح، حظيت مبادرة رئيس الوزراء العراقي بالمباركة الإيرانية قبل انطلاقها. ويهمّ طهران أن تقلّص من الجبهات المفتوحة عليها إقليمياً لتتفرّغ للمواجهة مع واشنطن.
وفي الموازاة، ترى السعودية أنّ من مصلحتها التقدم خطوة نحو التسوية مع إيران. فذلك يريح خاصرتها اليمنية من نزفٍ مفتوح، ويجنِّبها مخاطر التوغّل الإيراني في عدد من الدول الخليجية والمسّ باستقرارها. كذلك تمهِّد المصالحة لإراحة السعودية في ساحات عربية أخرى، كلبنان وفلسطين وسوريا والعراق وسواها.
ولكن، في ظلّ الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على إيران، والتي تزداد سخونة إلى حدود غير مسبوقة، ثمّة مَن يعتقد أنّ من الصعب على القوى العربية الحليفة لواشنطن أن تذهب في اتجاهٍ مُهادن، خصوصاً عندما تساورها الشكوك بأنّ إيران لا تريد المصالحة حالياً إلّا من أجل إمرار المرحلة الصعبة لا أكثر، وأنها لن تتخلّى عن نفوذها التوسعي في الشرق الأوسط.
ولذلك، قد تتردّد المملكة في الذهاب بعيداً في المصالحة، فيما هي تَعتقد أنّ الفرصة السانحة لإضعاف النفوذ الإيراني في الخليج والشرق الأوسط ككل.
ولكن، إذا استنتج السعوديون، في لحظة ما، أنّ صفقة أميركية – إيرانية قد تحصل فجأة، وفق الطريقة التي يفضّلها الرئيس دونالد ترامب، فإنهم سيسارعون إلى حفظ مصالحهم قبل فوات الأوان، إذا استطاعوا، لأنّ هذه الصفقة – إذا تمّت- ستكون بمثابة زلزال سياسي.