IMLebanon

عن إيران والسعودية وتغيير قواعد اللعبة

 

«وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً
وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـركُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا
وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ»

(زهير بن أبي سلمى)

من الأخطاء الشائعة في الأحاديث العامة في السياسة هي مساواة دور السعودية في لبنان بدور إيران. ما أراه هو أنه لا يوجد بالأساس مجال للمقارنة، لكن العادة اللبنانية برفع المسؤولية عن الذات تفترض أن لبنان لا حول له ولا قوة، وأن اللبنانيين واقعون بين رحى مصالح الأمم الإقليمية والدولية. وهذا بالذات ما دفع البعض إلى تسمية الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة والمتكررة «حرب الآخرين» أو «حرب الغرباء»، لمجرد رفع العتب عن الذات ورَمي تبعات الجريمة على كبش محرقة بصفة «الآخر» أو «الغريب»، ويمكن الحديث أيضًا عن مؤامرة تحيكها القوى الشريرة للبنان الملاك ولشعبه البريء من دم الصديق.

قد يكون صحيحًا أنّ بعض دول المنطقة رحّلت مصائبها ومشاكلها الناتجة عن الصراع ضد إسرائيل إلى لبنان، لكن المؤكد هو أن ضعف مناعتنا ونتانة بعض فكرنا، جعلت كلها من لبنان الجسم الأكثر ملاءمة ليتلبس عباءة الخراب، وأظن أننا كنا ناجحين بشكل مبهر في مسار التدمير الذاتي المازوشي منذ سنة 1958 حتى اليوم، وكما يبدو إلى مستقبل غير واضح المعالم حتى هذه اللحظة! طالما أننا ما زلنا نردّد حديث المؤامرة من على المنابر ومن خلف الشاشات العملاقة، بمناسبات هجينة نخرج فيها، فيما الجماهير الغفيرة تهتف «لبيك… لبيك…».

المقارنة التافهة، مع أنها لا تخلو من الطرافة، كانت عندما قالت نائبة رئيس التيار الوطني الحر انها تفضل إيران عن السعودية لأن الأولى تحيك السجاد العجمي! أما اليوم فلا أعلم ما سيكون ردها على هكذا سؤال، بعد تفرّق العشاق وانفراط عقد اتفاق مار مخايل وفقدان رئيس التيار حظوته الإيرانية مع حظوظه الرئاسية!

لكن الحديث الآن لا علاقة له بمن سيكون رئيس الجمهورية، ولا بحياكة السجاد، ولا بحروبنا ضد حالنا، فهي مجرد تفاصيل هامشية فيما يحدث على الصعيد الدولي، فيما يبدو أنه تغيير جذري في قواعد اللعبة الدولية أولًا ومن ثم الإقليمية. فقد أظهرت حرب أوكرانيا الخلل الخطير في منظومة الاستقرار الدولي الذي بني بعد الحرب العالمية الأولى أولًا من خلال الأمم المتحدة، والثاني الأهم هو ما بعد انهيار الستار الحديد ونهاية الحرب الباردة المبنية وهميًا على الأفكار، فيما جوهرها هو كما كان دائمًا، توسيع السيطرة من أجل توسيع الاقتصاد. عشيّة انهيار جدار برلين، أخذت العزة ببعض العقول الذكية إلى الاستنتاج بأنها نهاية التاريخ، كما قال فرنسيس فوكوياما في «نهاية التاريخ والرجل الأخير»، أو تحول نوعية الصراع، كما نظّر صموئيل هنتغتون في كتابه البحثي «صدام الحضارات». لكن الواضح بما يحدث اليوم هو أن التاريخ لن يقف على خاطر أحد فيتوقف في لحظة ما عن المضي غير عابئ بنظرياتنا ونبوءاتنا، كما أن الحضارات تتلاءم أو تتصارع بناءً على الفوائد المشتركة أو المصالح المتضاربة، وليس بسبب الأفكار المختلفة، أكانت ماورائية أم اجتماعية أم نظرية أم ثقافية، والتاريخ هنا خير شاهد!

تراجع معظم مفكري العولمة الرأسمالية الأحادية القطب، وبعضهم اعتذر عن سوء الفهم، وها نحن اليوم على أبواب عالم جديد تلوح فيه احتمالات حرب عالمية جديدة تكون، كما تصورها اينشتاين، آخر حرب تستعمل فيها أسلحة القتل المتحضّر التكنولوجي، لتعود بعدها البشرية، أو ما تبقّى منها، لوسائل القتل القديمة! أظن أن ما يؤخّر هذا الاحتمال هو الخوف المتبادل من الارتدادات، فمن سيأخذ القرار اليوم لا يمكنه ضمان النتائج، لكن عدم ضمان النتائج لم يمنع أياً من البشر في التاريخ من اتخاذ القرارات الخطرة التي، متى فشلت، تصبح إجرامية وخاطئة، وإن نجحت، تصبح جريئة وبطولية، بغضّ النظر عن خسائرها الجانبية، أي الموت والدمار. كل ذلك لا يهم التاريخ بشيء، فهو مسار أعمى ولا يحاكم أو يجادل…

لكن، بالعودة باختصار شديد إلى حدث اليوم، أي المسار السعودي الإيراني، وهو قد يكون حدثًا محليًا إقليميًا مهمًا بقدر أهميته الإقليمية لشعبين متجاورين يبحثان عن مصالح مشتركة مبنية على تحييد العقائد عن مسار المصالح، وهو بالأساس أصل الاجتماع بين البشر، أي تحييد الخوف البدائي من الآخر من أجل ضمان المصلحة المشتركة. مع الوقت تبنى عناصر الثقة من خلال تشابك المصالح وإثبات الفوائد من عدم العودة إلى الصراع المكلف للأطراف. لكن الخطر من المسار السعودي الإيراني هو من نجاحه وليس من فشله، خاصة لأنه يأتي بظل تغيير جذري في قواعد اللعبة الدولية، ولأنه مرعي من قبل الصين التي تسعى إلى نسف المعادلات القائمة على التفوق الغربي-الأمريكي الذي جعل من أميركا وحلفائها الأوروبيين يحتكرون القدر الأكبر من الاقتصاد العالمي. هذا هو مركز الخطورة لأنه يستند إلى الشيء ذاته الذي أسس للصراعات المعروفة في التاريخ، وعلى الأرجح ما قبل التاريخ المدون، أي الموارد والمصالح. هذا ما يجعل من احتمال تحوّل المسار السعودي الإيراني، في حال نجح، إلى تأجيج الصراع الدولي لسبب أساسي هو أن الدولتين هما أهم مصادر الطاقة في العالم، وأن دخولهما في أحلاف سيرجّح كفة على أخرى.

لكن، بالعودة إلى الموقف السعودي، أظن أن القرار بالذهاب إلى هذا المسار قد يكون يوازي ويزيد على قرار تغيير قواعد اللعبة النفطية بعد حرب 1973 وسحب جزء من التحكم بالأسعار والأسواق من شركات النفط العملاقة المعروفة بالأخوات السبع، وكلها كانت غربية الأصل والسيطرة. لم يأت القرار السعودي إلا بعد مسار مُضن من الخيبات من الحلف مع الغرب، وبالأخص من الولايات المتحدة الأميركية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بقيت قضية فلسطين النقطة السوداء في العلاقة، فقد غَطّت الولايات المتحدة كل التجاوزات الإجرامية لإسرائيل وسايرت تطرفها وتملّصها من القرارات الدولية ساندتها في كل الظروف، بشكل أدامَ الصراع واستنفد القدرات العربية وقزّم القضية إلى ما هي عليه اليوم، في حين أن العرب، وعلى رأسهم السعودية، قدموا المشروع المنطقي الوحيد لحل الصراع سنة 2002 في قمة بيروت المسند إلى الأرض مقابل السلام. قضية احتلال العراق وسياسة تمكين إيران من التمدد والسيطرة عليه، ربما بشكل مقصود، أو غير ذلك، لكن بالنهاية فإنّ أبسط تحليل كان سيتوقع الأمر عاجلًا أم آجلًا. تأتي أيضًا قضية الحيادية المريبة في الساحة السورية وبالأخص بعد المجزرة الكيميائية التي قام بها النظام، وتراجع أوباما عن ضربه، مما أطال أمد الحرب هناك وأخّر إمكانية الحلول، ومن ثم أعطى داعش مساحات فكرية وعسكرية واسعة للتمدد في سوريا والعراق. تأتي قضية اليمن لتكون ثالثة الأثافي، حيث أصبحت السعودية محاصرة بالأخطار من كل صوب، خاصة بعد أن انسحبت الأطراف الخليجية الحليفة من الصراع الواحدة تلو الأخرى لتترك السعودية لوحدها لتستنزف، فيما يطور الباقون اقتصادهم ويبنون أحلافًا جديدة، ومنها خارج المنطق والسياق مع إسرائيل، من دون تطور سياسي جدي في السياسات الإسرائيلية بخصوص فلسطين.

لقد تعاملت الولايات المتحدة بشكل غير سوي مع السعودية لعقود طويلة معتبرة إياها مصدرًا للمال والطاقة، ولم يختلف في ذلك المنحى لا بوش ولا أوباما ولا ترامب ولا بايدن. لكن التحول أتى داخل السعودية بعد حرب اليمن حين صارت مجتمع حرب لأول مرة في تاريخها الحديث، وبالتالي إحداث تغييرات جذرية مجتمعية واقتصادية وسياسية، سمحت لقيادة شابّة وثورية بالخروج من التقليد وإحداث الفرق. هذا الأمر فتح الباب أمام نخب جديدة لقيادة التحول، ومن ضمنه ما نراه اليوم في الداخل السعودي. هذا ما وجّه رسائل للمحيط القريب أولًا بتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية المبنية على استنقاع السياسات السعودية التقليدية، والاستفادة منها وعلى جوانبها. أما التحول الأخطر فهو الحدث الأخير الذي أدخل الصين كلاعب أساسي، وفتح باب «الطوق» قبل استكمال «الطريق»، وهي السياسة التي تروج لها الصين منذ عقد لتتحوّل إلى قوة أعظم من الولايات المتحدة وحلفائها مجتمعين، وذلك ليس من خلال العقائد ولا الأفكار، بل من خلال البراغماتية المركنتيلية ذاته التي روّجت لها الولايات المتحدة الأميركية للقضاء على المعسكر الشيوعي.

لا أدّعي في كلامي هذا أن الأمور مكتملة أو سائرة بشكل سوي نحو تحقيق الأهداف، لكن المؤكد هو أن الطرف الآخر مدرك لخطورة الأمر، لكن استدراكه ايضًا يحتاج إلى تغيير جذري في قواعد اللعبة، وهو ما لا يبدو واضحًا في الأفق اليوم. من هنا تأتي خطورة الأمر لاحتمال اتخاذ القرار بالدخول في مغامرة غير محسوبة النتائج. يقول هيغل ان لا شيء مهمًا يحدث في التاريخ إلا بالحرب.