قصة دور ميتران في عبور الطائف للطوائف
وتحالفات قد تمهّد لتغييرات سياسية مرتقبة
ذهب قويا وعاد قويا. وبين الذهاب والإياب ملاحم رائعة لمستقبل آتٍ، يعزز من مناعته حلف سياسي منفتح، على تواصل مع شريك ثالث في السلطة، هو رئيس البرلمان، وان ظلّت التباينات قائمة.
والسفر الى الرياض والعودة من الدوحة مؤشر الى ان لبنان لن يعود الى القوقعة ولن يتخلّى عن الانفتاح عن الرحابة ليعود الى التقوقع المرفوض.
ولا غرابة في قول الرئيس العماد ميشال عون ان توافقه مع رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري هو الباب الذي يدخلان منه معا الى الاتفاق على مجمل القضايا اللبنانية، وان ما يجمعهما مع الرئيس نبيه بري هو النظام، ولو ان لكل منهم رأيه وموقفه لكن النظام الديمقراطي يمنح رئيس الجمهورية حق ترؤس معظم المواقع، لكن التباين في وجهات النظر يكفله الدستور ويرعاه النظام.
طبعا، يشاركه الرئيسان سعد الحريري ونبيه بري في وجهة نظره هذه، إلاّ أن خصوصية رئيس الوزراء تختلف عن خصوصية رئيس مجلس النواب، وهذه من مميزات النظام الديمقراطي، لا من صفات النظام الرئاسي.
والحوار حول هذا الموضوع، بلغ ذروته، بعد عودة رئيس الجمهورية من رحلته الرئاسية الأولى الى السعودية وقطر، وخلال العراك في البرلمان التركي بين أنصار الرئيس رجب الطيب أردوغان ومعارضيهم، الذين يتمسّكون بالنظام الديمقراطي على علاّته التركية، ويعارضون مساعي الرئيس التركي الى حكم رئاسي، شبيه الى حدّ بعيد بالنظام السائد في الولايات المتحدة والنظام القائم في فرنسا.
وفي رأي وزير العدل سليم جريصاتي ان هذا المفهوم هو الذي يميّز النظام اللبناني عن سواه ويعطي الفرادة السياسية للرئيس العماد ميشال عون.
ويشدّد وزير العدل، على أهمية العدالة في ممارسة الأنظمة السياسية، وترسيخ الصرامة الدستورية في القوانين السائدة.
ويقول وزير العدلية، ان من حق كل رئيس ان يدافع عن مواقفه، وان يذود عن صناعة القرار في الدولة، لأن للقوانين والدساتير حقوقا لا يجوز التنازل عنها، أو هتك أصولها الدستورية.
وهذا ما يقترب من مفهوم رئيس مجلس النواب عندما يتمسّك بالجذور الديمقراطية، ويعبّر عنها في الأربعاء النيابي، خصوصا حرصه على اعتماد التقشف في مصاريف رئاسة مجلس النواب المكتبية ليكون القدوة والمثال في انفاق موارد الدولة.
طبعا للرئيس نبيه بري مذاهبه الخاصة، كما له قواعد عامة يلتزم بها في ممارسة واجباته النيابية. عندما زار فرنسا قبل قرابة ثلث قرن، وحرص على تبيان الحقوق الفوقية أو البرلمانية أو السلطوية كانت خلاصة آرائه، ان الرئيسين ديغول وميتران كانا مختلفين في طرائق تطبيق النظام، إلاّ انهما كانا متفقين على حماية كل منهما لخصوصية النظام والمفهوم الديمقراطي.
صحيح ان الرئيس بري لم يكن شغوفا بأسلوب الرئيس الفرنسي جاك شيراك، لكنه كان يصرّح مرارا بأن النظام الفرنسي لم يكن واحدا في الممارسة السياسية لا العقائدية في أساليب التطبيق للنصوص المتداولة.
وهذا ما جعل الرئيس سعد الحريري يقتفي آثار والده الشهيد رفيق الحريري في جولاته الأميركية والأوروبية بعد استشهاده.
وعندما كان على وشك الدخول الى البيت الأبيض الأميركي، بلغه من بيروت ان الرئيس نجيب ميقاتي نفذ انقلابا سياسيا عليه، واستطاع انتزاع رئاسة الحكومة منه، وعاد الى بيروت رئيسا مستقيلا لحكومة جامعة لمعظم الأفرقاء، واستسلم للزعيم الطرابلسي الذي انتزع رئاسة الحكومة من الصيداوي الذي نقل زعامته الانتخابية من صيدا الى بيروت وأصبح لاحقا القائد الأول للطائفة الاسلامية السنية في لبنان.
إلاّ أن سعد الحريري يعود الآن الى رئاسة الحكومة متوافقا مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بيد ان معركة كبرى تنتظره في طرابلس وصيدا.
إلاّ أن الكيل طفح مع الرئيس سعد الحريري، عندما تناهى اليه خطأ سياسي لم يكن موجودا، عندما سمع كلاما وانطوى عليه، من حليفه الوزير السابق أشرف ريفي، ضد الوزير الحالي نهاد المشنوق، ما جعل وزير الداخلية يقول علنا انه يعتزّ بالشهادة الصادرة بحقّه من الرئيس الحالي للحكومة.
قبل بضعة أشهر، كان يقال ان نهاد المشنوق وأشرف ريفي يتسابقان على الوصول الى رئاسة الحكومة ساعة كان سعد الحريري يرتاح بين باريس والرياض. إلاّ أن الحقيقة ان رئيس مجلس الوزراء الحالي كان يدرك ان السوريين مارسوا ضغوطا على والده لابعاد المشنوق عنه، وان أنصارهم في لبنان، مارسوا ضغوطا عليه لابعاد أشرف ريفي عن المناصب عندما كان مديرا عاما للأمن الداخلي.
ويقال ان الرئيس سعد الحريري مصمّم على بناء زعامته اللبنانية خصوصا على أساس التجديد في الطاقم السياسي المتعاون معه، وانه رسم أو يرسم الطريق الى استبعاد قيادات عريقة تعاون معها والده، وتابع الطريق من بعده، خصوصا في بيروت وصيدا وطرابلس وعكار.
وتردد ان بواكير هذه التغييرات بدأت تظهر على الصعد السياسية والتنظيمية، وان وجوها لامعة الآن سيخبو بريقها في المرحلة المقبلة وكانت البداية في تأليف حكومته الأخيرة وضمّ الوزير محمد عبداللطيف كباره اليها والوزير معين المرعبي، واستبعاد حليفه النائب خالد ضاهر.
ويقال أيضا ان المعركة الأساسية ستكون بثلاثة عناوين هامة تتمثل في غياب وزير العدل السابق أشرف ريفي، وتعزيز صلاحيات وزير الداخلية نهاد المشنوق وزعماء أساسيين في تكتل المستقبل في كل من صيدا وبيروت.
ولا يستغربن أحد اذا شاهد زعامات تغيب وينحسر وجودها سياسيا.
إلاّ أن الرئيس سعد الحريري متمسك حتى الآن بتحالفاته مع النائب وليد جنبلاط ومع رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع.
وقد بذلت خلال مرحلة ما قبل تشكيل الحكومة مساع لجمع الرئيس الحريري والنائب عبد الرحيم مراد، إلاّ أن الزعيم البيروتي اختار التعاون مع وزير الاتصالات الحالي جمال الجرّاح، دون ان يُعرف منذ الآن ما اذا كان ذلك أنيا أو مرحليا، لأن زعامة الطائفة السنية معقودة اللواء الى اشعار آخر لرئيس مجلس الوزراء الحالي.
وهذه الوقائع قد تكون عابرة للطوائف والمناطق، لأن الرئيس سعد الحريري متمسك بتعاونه مع الوجوه والزعامات البارزة في الطوائف المسيحية ولا سيما الرئيس الشيخ أمين الجميّل، ورئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميّل، وحريص على الحلف الذي يمتد من بيروت الى معراب ويضم الدكتور جعجع والوزير ميشال فرعون الذي استبعده أخيرا عن وزارة السياحة لصالح حزب الطاشناق الأرمني.
وفي تعبير صريح عن آفاق المرحلة المقبلة، يقول العارفون بالأسرار ان الأمور كلها معلّقة على الاتفاق المزمع بين معظم الكتل السياسية حول القانون الانتخابي الجديد، وما اذا كان سيكون على نسبية طاغية أو نسبية معتدلة أو على نظام نصفه أكثري ونصفه الآخر نسبي.
وثمة معلومات تقول ان وزير الداخلية نهاد المشنوق مصمم على الدعوة الى الانتخابات في الربيع المقبل على أساس قانون الستين معدّلا أو كما هو الآن، ايمانا منه بصعوبة انجاز مشروع قانون قبل ستة أشهر.
وترجح جهات نافذة نجاح مساع مبذولة لصالح النظام المختلط مناصفة بين النسبي والأكثري لأن ثمة حرصا عند الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري على التفاهم مع النائب وليد جنبلاط المعارض للنسبية والمؤيد للنظام الأكثري.
ويعزز من احتمالات نجاح النظام الانتخابي المختلط، ان حزب التيار الوطني الحر برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل يقف مع زملائه في التيار ضد النظام الأكثري، ويتعاطف مع النظام المختلط، الذي أيّده سابقا تكتل المستقبل وحزبا القوات والتقدمي الاشتراكي.
طبعا، ان الميول الجامحة الى نظام انتخابي نسبي تستدعي تعديلا في القانون الانتخابي وتستلزم تأجيلا تقنيا للانتخابات قد يجرّ الى تأجيل انتخابي وراء تأجيل سابق خصوصا ويُقال انه جرى حتى الآن تأجيل لمرتين، ولا يجوز التأجيل لمرة ثالثة، على ما يؤكد النائب انطوان زهرا.
والأمور كلها تدور في دائرة التكهنات، ولا أحد يعرف الى أين تسير الأمور لاحقا.
وفي الحقيقة ان المستقبل يشوبه غموض وتحوطه تغريدات غامضة الأوصال والتفاصيل، لأن المجلس النيابي سيعقد جلسة تشريعية قريبا لم يدرج عليها أي مشروع أو قانون انتخابي مما يطلق احتمالات عديدة لتكهنات غير واضحة المعالم. ولا سيما على صعيد القانون الانتخابي.
وربما، يكون انشغال الوسط السياسي بمشاريع استخراج النفط والغاز، مبررا للتمهّل في اقرار أي قانون، مما يضفي غموضا قويا على آفاق الحقبة الآتية خصوصا بعد الأزمة البيئية الناجمة عن أخطار الطيور على حركة الملاحة الجوية في مطار بيروت الدولي.
ويروي الوزير السابق للتربية الياس بو صعب الذي اصطحبه معه الرئيس عون الى السعودية وقطر، ان القادة السياسيين والأمراء البارزين في الرياض والدوحة، خرجوا مأخوذين بصراحة رئيس الجمهورية، وبمواقفه الواضحة في الشؤون العامة، وانهم فوجئوا بما يتميز به من صدق وصرامة في التعبير عما يخالجه من مواقف.
وكشف الوزير السابق للتربية ان الوزير الحالي مروان حماده وقف على خصائص سياسة أبي صعب التربوية ولم يكن مجافيا لما حققه وما كان يعتزم تحقيقه، لكن لكل وزير أسلوبه واراؤه وليس ما يضمره الحزب التقدمي الاشتراكي هو الأسلوب نفسه الذي اضطلع به عندما كان وزيرا للتربية والتعليم العالي.
إلاّ أنه أكد تفاهمه مع وزير الخارجية جبران باسيل، ونافيا في الوقت نفسه، ما يقال ويشاع عن ابعاده عن الحكومة يعود الى وجود تباين في وجهات النظر بينه وبين الرئيس العماد ميشال عون.
ويكشف نائب بارز في تكتل التغيير ان الرئيس العماد ميشال عون حرص، قبل النزول الى البرلمان، لانتخابه رئيسا للجمهورية على فصل نفسه عن حزبه، لأنه سيكون رئيسا للبنانيين جميعا لا رئيسا للحزب الذي أسسه.
وفي هذا المجال أقام قبل أسبوع من الانتخاب الرئاسي، مأدبة غداء أقامها في الرابية ل الفرسان السبعة الذين كان يلتقي بهم أسبوعيا، للتداول في شؤون الساعة، لئلا يقال انه استبعد أحدا منهم عن رئاسة الحكومة التي كان يزمع تشكيلها، والتي لا يعتبرها الحكومة الأولى في عهده السياسي، وأبرزهم ايلي الفرزلي والدكتور السفير السابق في واشنطن، عبدالله بو حبيب وبعض الوجوه من الأقليات السياسية ولا سيما الطائفة السريانية.
ومعظم هؤلاء كانوا يجتمعون يوم السبت في أحد المرابع، ثم يصعدون معا الى الرابية.
ويستبعد في هذه المرحلة، ان يدعو الرئيس نبيه بري الي اجراء انتخابات فرعية لملء المقاعد الشاغرة بانتخاب عون رئيسا للجمهورية والنائبين روبير فاضل والمرحوم بدر ونوس بعد رحيله قبل أسبوعين، عن المقعدين الأرثوذكسي والعلوي في العاصمة الثانية.
ويشدّد العماد عون الآن، وبعد عودته من السعودية وقطر، على ان الخلل الذي عرفه اللبنانيون في مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية قد انتهى ويؤكد ان العلاقات الطبيعية عادت الى صفائها السابق، وان المرحلة المقبلة سيركّز رئيس الجمهورية على بلورتها مع دول الخليج العربي وعلى تحقيق نوع من المصالحة التاريخية بين الجمهورية الاسلامية في ايران والدول الخليجية، لأن لأبناء دول الخليج دورا مميزا في العلائق مع لبنان، منذ الأيام الغابرة.
ويبشر العماد عون بخطوات سريعة في هذا المجال على الصعد الاجتماعية والاقتصادية، ادراكا منه ان الفوران الاقتصادي الذي شهده لبنان، والفوران العمراني في أبوظبي ودبي ما كان ليكون لولا توافر حكمة الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان وأولاده ومعاونيه.
ويعترف الرئيس عون بضرورة العمل على حلّ بعض الاشكالات العابرة، وازالة غموض اعتراها خلال فترة الفراغ في السدّة الرئاسية، لكنها لم تباعد بين الأشقاء العرب، ويكشف رئيس الجمهورية انه خلال مباحثاته في السعودية وقطر، على أهمية توافر الأمن والاستقرار في لبنان في مواجهة الارهاب، وأكد ان اللبنانيين مجمعون على الابتعاد عن الصراعات السياسية مع اخوانهم، وقال ان اللبنانيين مجمعون على العلائق والصداقات مع الدول التي ساندت لبنان خلال الأزمات والمحن التي نشأت في السنوات الأخيرة من الحرب.
وينوّه العماد عون بما فعلته المملكة العربية السعودية للبنان، وهي مستمرة في هذا الدعم.
وأشار الرئيس عون الى اتفاق الطائف الذي وضع في السعودية بدعم عربي ومساندة دولية، وقال ان الشوائب التي اعترت تنفيذه ناجمة عن وجود معارضة سورية وتباينات سورية مع ما كان يلقى من مساندة غير بريئة لبنانيا.
وأعاد الرئيس عون الى الأذهان، انه أرسل الى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، انه يرضى بما يرضى به المتحاورون من الناحية السياسية، ولكن عندما نعود الى مرحلة الانسحاب السوري من لبنان لا نرى لها أثرا في الاتفاق، وقال ان هذا الأمر ما كان عليه الخلاف. وعندما زال الوجود السوري انتهى الأمر، وعدت الى لبنان، كما عدت الى السعودية.
واعتبر الرئيس عون ان اتفاق الطائف ضروري، مشيرا في المقابل الى ان هناك بنودا لم تنفذ، مع انه جرى الاتفاق عليها في الطائف في مقدمتها القانون الانتخابي الذي يحفظ قواعد العيش المشترك، ويؤمّن التمثيل الصحيح لمختلف شرائح الشعب اللبناني، وهو لم يكن محترما، لأن قوانين الانتخابات النيابية التي أجريت على أساسها الانتخابات منذ العام ١٩٩٢ أفرزت أرجحية للقوات الموالية لسوريا.
وقال عن الانتخابات المقبلة، انها ستجري على أساس القانون المنتظر اقراره، مبديا اعتقاده ان اللبنانيين سيتوصلون في نهاية المطاف الى اتفاق، لأنهم يعلمون ان ذلك أكثر ثباتا لاستقرارهم الوطني، مشددا على ان القانون النسبي يؤمّن تمثيل جميع المواطنين ومتوقعا تسوية قد لا تحقق العدالة كاملة، إلاّ أنها تحقق حدّا كبيرا من العدالة.
واكد ان الملف السوري لا يحل الا سياسيا ولا يمكن حسمه عسكريا لان الاطراف الدولية قد تعمد الى تغذية الحرب من الخارج، لافتا الى ان الحل السياسي يتم عبر التسوية.
واشار الرئيس عون الى اننا لا نرى لبنان خارج العالم العربي، فميثاق الجامعة العربية سبق اتفاق الاتحاد الاوروبي، واذا راجعنا بنوده نجد انها اكثر تطوراً من الناحية الفكرية الا ان الميثاق اخذ يتراجع. ودعا الى قيام سوق اقتصادية مشتركة فتتطور شبكة الانماء والاعمار، والاتصالات والمواصلات ما يمكّن من تقريب طبيعة الانظمة من بعضها عبر الاتفاقيات.