Site icon IMLebanon

تقاطعات المشهد في لبنان والعراق.. وإيران

 

ليس تفصيلاً أن تحقق الانتفاضة إنجازين اثنين في أقل من يومين؛ إيصال نقيب للمحامين خلافاً لإرادة معظم أحزاب السلطة مجتمعة، وتأجيل الجلسة التشريعية للمرة الثانية على التوالي، كل ذلك بعد استقالة الحكومة وإسقاط تهريبة مرشح «الليلة ونصف نهار». إنها لحظات تاريخية ليس على مستوى لبنان الذي يعيش انتفاضة ثورة مستمرة منذ أكثر من شهر، بل في العراق أيضاً. فالمشهدان اللبناني والعراقي تجمعهما تقاطعات وحيثيات متشابهة كثيراً، خصوصاً لناحية الفساد السياسي الكبير، واعتبار كِلا البلدين، إلى جانب سوريا واليمن، تحت هيمنة إيران التي تشهد بدورها احتجاجات شعبية كبيرة. هكذا تكتمل أضلاع مثلث الاحتجاجات.

 

ما يجري في ساحات لبنان وفي بلاد الرافدين غزير الدلالة وواسع التأثير. هو أشبه بإعلان انتهاء مرحلة، والتبشير بولادة أخرى جديدة، تختلف عن سابقاتها، فبعض بلدان المنطقة، ومن ضمنها لبنان والعراق، عانت من التدخل الإيراني المباشر تحت عناوين طائفية ومذهبية وعلى حساب السيادة الوطنية، وحقوق المواطنين، واستقامة العملية السياسية. على أن أخطر ما في هذه التقاطعات، وأشدها إثارة للعجب، هو الموقف الغربي المكتفي بالتفرج على استنزاف الشارعين العراقي واللبناني، وتزايد احتمالات الانزلاق رويداً رويداً نحو الحرب الأهلية أو انهيار الدولة، بالرغم من تبنيه شعارات الديموقراطية وتداول السلطة واحترام حق التعبير ومحاربة الفساد، حتى إن ما صدر من مواقف غربية أساء للحراك أكثر مما أفاد.

 

أفول نجم سليماني!

 

قبل أيام كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن طهران تخشى من أن الاحتجاجات في مدن العراق ولبنان ستؤثر على نفوذها الاقليمي، خصوصاً وأنها تعاني أصلاً من تداعيات العقوبات الاميركية، ولفتت الصحيفة إلى أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني يحدد سياسات إيران في كل من: لبنان، سوريا والعراق، وأن الحرس الثوري، لا الخارجية الإيرانية، يشرف على تعيين سفراء طهران في عواصم هذه البلدان. وهو، فوق ذلك، يتمتع بسيطرة أمنية وسياسية في العراق، ويقف وراء الايعاز بعمليات تطهير عرقي على أساس مذهبي في محافظات عراقية بواسطة ميليشيات الحشد الشعبي.

 

في خلاصة التقدير المذكور أن طهران ترصد منذ سنوات تقهقر المدّ الايراني، وفشل استراتيجيا تصدير الفوضى والاقتتال الداخلي، وأن ردة فعلها ازاء كل ذلك عدم تصديق الزلزال الحاصل، لأن انهيار نموذجيّ العراق ولبنان، وهما درّة تاج تجربة سليماني، يعني انسحاب هذا التراجع حكماً إلى ساحات سوريا واليمن وغزة أيضاً.

 

تهمٌ جاهزة.. عمالةٌ وشغب!

 

وإذا كان هذا التقدير يؤشّر إلى تضعضع النفوذ والتأثير الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، فإنه من المبكر جداً تبنيه أو التسليم بنتائجه لأسباب عديدة.

 

يرتكز الموقف الايراني من الانتفاضات الشعبية الحاصلة إلى عدم الفصل بين السياسي والاقتصادي والحياتي، وبالتالي حشرها بين حدّي: الاتهام بالعمالة للغرب، أو وصف المواطنين المحتجين بأنهم مثيري شغب وبالتالي الترهيب بعصا النظام الغليظة. هذا تكتيك تعتمده طهران، في ساحات هيمنتها، حتى لو أدى الأمر للإنزلاق نحو حرب أهلية تجعل من الطرف المسلح وميليشياته قادراً على فرض إرادته وسيطرته بالقوة. لكنها أيضاً اعتمدته إزاء احتجاجات مواطنيها المنتفضين رفضاً لرفع أسعار مشتقات الوقود التي علّق عليها مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي متهماً «أعداء الثورة» بافتعالها، بالتوازي مع توعّد الحرس الثوري بـ«إجراءات حاسمة»، وهو ما حصل ويحصل بشكل فجّ في إيران والعراق.

 

وكان خامنئي اتهم ثورة شباب لبنان والعراق بعيد انطلاقتها بأنها «أعمال شغب تسببت بها أميركا والكيان الصهيوني ودول غربية بأموال دول رجعية»، داعياً لأن تتحقق مطالبهم «ضمن الأطر والهيكليات القانونية حصراً»!!

 

العراق: حرمان على بحر نفط!

 

لا يختلف المشهد في العراق، فالقمع الوحشي للانتفاضة الشعبية المستمرة منذ خمسة أسابيع ضد حكومة عادل عبد المهدي، وسلطة ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من ايران احتجاجاً على نقص الخدمات العامة، وضعف الأداء الاقتصادي وانتشار الفساد في إدارات الدولة، وسيطرة الميليشيات على الأجهزة الأمنية وتورطها بجرائم تطهير على أساس طائفي ومذهبي، كلّ ذلك أظهر العراق، دولة هشّة، ذات نظام سياسي متآكل، مهترئ، فاسد، طائفي. لا يمكن تخيّل، ولو في أسوأ الكوابيس، أن مدينة مثل البصرة التي تعوم على بحر من النفط، تشرب ماءً ملوثاً، ولا تستفيد من أبسط الخدمات العامة للدولة، وهو الحال الذي ينسحب على محافظات ومناطق ومدن أخرى!

 

حزب الله: براغماتية ومخاوف

 

في لبنان تبدو الصورة أكثر تعقيداً. فموقف «حزب الله» من الثورة الشعبية تدرج من رسم خط أحمر أمام استقالة الحكومة، إلى اتهام الناشطين بالارتهان للخارج وتلقي تمويل من سفارات غربية، إلى إرسال مناصرين للاعتداء على المعتصمين في وسط بيروت ومدن الجنوب، إلى إطلاق حملة إعلامية مضادة للتصويب السياسي من خلال ربط التظاهرات بجهات سياسية واستغلال العناوين المطلبية وشعار محاربة الفساد وضرورة التغيير.. ولاحقاً التراجع خطوة عبر القبول بأمر واقع فرضته استقالة حكومة الحريري، والإعتراف بأحقية مطالب الناس لكن مع الخشية من الانزلاق نحو أجندة أميركية، ثم القبول بتشكيل حكومية تكنو – سياسية مع أفضلية تشكيلها من قبل الحريري نفسه وتضم ممثلين عن الحراك.

 

في كل ذلك، حرص الحزب على تسريب أجواء مفادها أنه يمتلك «خطة ب» فيما لو لم تنجح البراغماتية في استيعاب ضغط الشارع، خصوصاً وأنه يعاني من ضغوطات خارجية تتمثل بالعقوبات الأميركية، حتى لو اقتضت المواجهة الذهاب لتشكيل حكومة أحادية، وبالتالي تحويل الأزمة إلى ما يعتقد الحزب أنه فرصة مواتية له ولحلفائه أكثر من أي وقت مضى.

 

هكذا تدرّج موقف الحزب عبر إظهار الليونة في مكان (تبني شعارات الإصلاح ومكافحة الفساد والمطالب الحياتية والاجتماعية) والتشدد في آخر (معارضة قيام حكومة تكنوقراط ببيان وزاري حياتي معيشي إصلاحي فقط، أي من دون ذكر المقاومة)، وذلك يعكس براغماتية في التعاطي مع التحول الكبير الذي تشهده الساحة اللبنانية، بل المنطقة. وقد يكون الحزب أكثر الأطراف فهماً لها ولتداعياتها المحتملة، لكنه في الخلاصة لا يستطيع التملص من واقع أنه شريك أساسي، مباشرة أو عبر وكلاء، في السلطة التي نشأت عن تحالف السلاح والفساد على حساب الدولة وسيادتها، وتالياً سيناله ما ينال بقية الأطراف من نقد واتهامات وتحميل مسؤولية الانهيار.

 

السلاح = الفساد

 

ما سبق يقود إلى حقيقة أن ذهنية الأحزاب الدينية والمليشيات المسلحة لا تتقبل منطق الاصلاح السياسي، بل ولا تسمح به إلا وفق أجندتها، أي أنها تحمل ذات عقلية الطبقات الحاكمة التقليدية التي ترى في الدولة الوطنية مجرد مزرعة لتقاسم الحصص، وليس وطناً يفرض انتماء ومواطنة وإدارة شفافة وحكماً رشيداً وتساو في الحقوق والواجبات.

 

بمعنى أدق، لقد أخضعت المليشيات المسيطرة في أكثر من بلد عربي (أربع عواصم بحسب التصريحات الإيرانية) الطبقات السياسية الحاكمة، والفاسدة طبعاً، للهيمنة مقابل تقاسم المكاسب والمناصب والمغانم. لممثلي ايران، الهيمنة على القرار السيادي والخارجي والاستراتيجي، والسيطرة على المرافئ والحدود، وتغطية إضعاف وتهميش الدولة الوطنية أو تهمشها، في مقابل، منح القوى السياسية الأخرى «مكرمة» البقاء في السلطة والغرق في الفساد، ومن ثم تقاسم الحصص والمكاسب ونهب المال العام.

 

إن التمعن في التجربتين، العراقية واللبنانية، يثبت أن السلاح والاستقواء والهيمنة حليف موضوعي للفساد، لكنه يكشف أيضاً حتمية فشل هذا التحالف لأنه يناقض بديهيات المواطنة ومنطق الدولة وأبجديات الحريات والتنمية والمشاركة. الشعوب قالت كلمتها، وفوق ذلك لقد تغيرت الأزمنة.