IMLebanon

كواليس اللقاء «الودِّي» في المحكمة العسكرية… طيّارة ومدفع!

حتى اللحظة الاخيرة من تولّيه رئاسة المحكمة العسكرية الدائمة يحرص العميد الركن الطيّار خليل ابراهيم على مواصلة مهامه. «آخر يوم مِتل أوّل يوم، أبداً!» يُكرر على مسامع كلّ من يدعوه لـ «التطنيش» أو لتخفيف مجهوده. بحماسة متناهية يستقبل عميداً، يودّع لواءً، يستمع لضباط، يُجيب على اتصالات هاتفه الذي لا يكلّ، عينه على الجرائد أمامه وأخرى على جدول الجلسات. لا حاجة لتسأل: «كيف بيلَحِّق؟»، فحواسه تعمل «24 على 24».

إنها الثامنة والنصف صباحاً وكأنه بعد الظهر في حسابات العميد خليل إبراهيم، هو الذي يحضر باكراً إلى مكتبه في المحكمة العسكرية على رغم إعداده المسبق للملفات كافة، وعلمه بتأخّر سوق الموقوفين.

الترويقة محطة لا بد منها لانطلاق يومه، فهو يعلم سلفاً في قرارة نفسه انّ ضغط الجلسات والمراجعات قد لا يتيح له تناول وجبة أخرى قبل التاسعة ليلاً.

يجلس إبراهيم على الطاولة المقابلة لمكتبه، يشرب الشاي، ويتناول فطوره، الكنافة ومعها العسل، وكرواسون بزعتر، يتصوّر في ذهنه مسار الجلسات، «هَيدي ماشية، هيديك ممكن ما تمشي!»، فكره في حركة دائمة.

«لو دامَت لغيرك…»

يرنّ هاتفه، إنه أحد أصدقائه المقرّبين، يسارع للرد عليه مطمئناً، يطول الحديث، قبل أن يُنهيه قائلاً: «أنا أؤمن بمقولة لو دامت لغيرك ما وصلت إليك». يقفل الخط ثم يعود لذاته مستذكراً كيف أمضى سنوات من دون أن يتسنّى له مشاركة زوجته وأولاده الثلاثة المناسبات، أو أقله نزهة عائلية، «بِحلف يمين ما في نهار ضَهَرو معي، ما بعرف أيمتى بخلَص شغل، برجع بيكونو نامو، بنام نص ساعة، ساعة، وبُوعا الفجر وبغطُس بالملفات».

يتأمل مكتبه الذي حرص على تنسيقه وترتيبه بنفسه منذ اليوم الاول الذي تسلّم فيه مهامه، وتحوّل إلى عالمه الخاص، فيقول ضاحكاً: «مَضّيت وقت هون أكتر من البيت»، ثم يجول بنظره على الجدار المقابل لطاولة المكتب، فعليه عَلّق كمّاً من الأوسمة والتنويهات التي نالها طوال مسيرته العسكرية. وعن شمال المكتب، طائرة منحوتة على لوحة صخرية، سرعان ما يتسع بؤبؤا عينيه حين يستقر نظره عليها، كيف لا والطيران حبّ حياته، ليلتفت بعدها إلى طاولة صغيرة عن يمينه وضع عليها «شَقعتين» من الملفات، «إرهاب من فجّ وغميق، كلها دسمة، قْرِيتا من الجِلدة للجلدة».

مع تقدم ساعات الصباح تتسارع حركة الزوّار: «سيدنا، فلان حابِب يسلّم عليك»، وآخر لديه مراجعة سريعة، بغمضة عين، يغصّ المكتب بالزوار، أما إبراهيم فعينه على عقارب الساعة، «إجو الموقوفين لَنبدا الجلسات؟»، يسأل وهو يبحث عن الولّاعة ليشعل سيجارته ربما المئة.

إلّا في المحكمة!

يرن هاتف إبراهيم، لا تكاد تمر دقيقة يفتح الباب ويقف مرحّباً، فإذا بخَلفه العميد حسين عبدالله يدخل مبتسماً، بيده اليمنى يصافح الحاضرين وباليسرى يحمل هاتفه، علبة نظاراته الطبية وأجندة كحلية صغيرة. يتعرّف سريعاً الى أسماء الحاضرين، ويتبادل أطراف الحديث مع سلفه.

يقدّم إبراهيم إلى عبدالله نبذة سريعة عن المحكمة، وما ينتظره من ملفات، ويتطرق إلى المشكلات التي قد يواجهها، ولا سيما بالنسبة إلى الملفات التي شارفت على خواتيمها، مثل أحداث بحنين، خلايا عبرا.

ثمّ يُعرّج على بعض المطبّات التي قد يواجهها أيّ قاض، منها تداخل الاسماء، وتشعّب الألقاب، أو العدد الهائل للموقوفين في ملف واحد حيث بلغ مثلاً 74 موقوفاً في ملف عرسال.

ويتوقف إبراهيم عند جدول الجلسات: «مفَوّل الرول من هَلّق حتى شهر 4 من العام 2017». أمّا العميد حسين عبدالله فكان يصغي بتمعّن، مرة يلامس ذقنه، ومرة يجول بنظره على الحاضرين من دون أيّ تعابير على وجهه. فيبادره إبراهيم بالسؤال: «قريت أصول المحاكمات؟ يهزّ عبدالله برأسه. ثم يسأله: حافظ قانون القضاء العسكري؟» فيجيب عبدالله «قريتو».

بعدها، يحذّره إبراهيم من ضغط الملفات «التي قد تتخطى التسعين جلسة في اليوم الواحد، كل اثنين وأربعاء وجمعة، أما الثلثاء فهو للملفات الطويلة». ويضيف إبراهيم بتعابير جدية: «وَين ما كان كلّ ما طلعِت رِتبة بيخِفّ شغلك إلّا بالمحكمة بيزيد، القاضي one man show»، وإنت قَدّا وقدود، والشباب هون بيساعدوك». ويتابع ممازحاً: «حياتك الاجتماعية رَح تنسيا، وكتير أمور رَح تتغيّر».

ثم يشير إبراهيم إلى انّ المكتب في خدمة عبدالله في أي وقت يريد إحضار أغراضه الخاصة، فبادره أحد الحاضرين: «هل ستأخذ معك تلك الطيارة؟»، فيتبسّم إبراهيم ويقول: «سأترك كل شيء إلّا الطائرة، سآخذها معي»، فيردّ عبدالله ممازحاً: «مِنحطّ محلّها مدفع»، وساد الضحك بين الحاضرين.

بعدها، جال عبدالله على مكاتب المحكمة وأقسامها، مصافحاً القضاة، محيياً المحامين، قبل أن يرافق إبراهيم إلى قاعة المحكمة قرابة الثانية عشرة والثلث.

«لآخِر تَكّه»

ترأس إبراهيم الجلسة، جلس عبدالله عن شماله والقاضي المدني محمد درباس عن يمينه، في حضور ممثل مفوض الحكومة القاضي داني الزعني. كان على جدول أعمال المحكمة جلستان إستثنائيتان، تضمّ الاولى 31 مدعى عليهم بتهمة تعرضهم للقوى الامنية واطلاق النار من أسلحة حربية محاولين قتلهم والتحريض على قتل عناصر دورية فرع المعلومات. وقد حرص إبراهيم على الاستماع والاستفسار عن أدقّ التفاصيل قبل المرافعة.

أمّا الجلسة الثانية الخاصة بتفجير برج البراجنة وتضمّ 37 مدعى عليهم فأرجئت إلى 6-12-2016، لعدم سوق المتهمين وتغييب بعض المحامين. وعلّق إبراهيم: «تَمَا تِتسَجّل على المحكمة إنو أجّلنا آخر جلسة بلا سبب».

أمّا المحامون فكان همّهم واحداً منذ اللحظة الاولى: «كل المؤسسات قد لا تحتاج إلى تمديد بقدر حاجة المحكمة، نظراً إلى انّ عدداً من الملفات الطويلة والشائكة بلغ خواتيمه، يصعب فيها العودة إلى نقطة الصفر، والأصعب التمكّن من كل ما تحويه من داتا في وقت سريع»… في الحالتين، القصّة بَدّا وَقت.