IMLebanon

البحر من أمامكم والعدو من ورائكم!

 ليست هذه هي عبارة طارق بن زياد بالضبط، لكنها تستفيد من هذا القول السائر في التعبير عن الواقع المقبض، الذي يعتبره البعض مدعاة لليأس لدى المصابين بأحد هذين الداءين أو كليهما، ومدعاة للسوداوية لدى أصحاب المسؤولية في البحث عن مخرج للجمهور وللسياسيين وللمثقفين.

لا يمضي أسبوع إلا ونسمع عن سفينة غرقت أو كادت وهي متوجهة إلى أحد الشواطئ الأوروبية محملة بمئات الرجال والنساء والأطفال من أحد الأقطار العربية المنكوبة بمسلحيها الحكوميين وغير الحكوميين، أو المنكوبة بالتدخل الخارجي، أو بالأمرين معا. وقد كانت سوريا هي النموذج لاجتماع أهوال الداخل والخارج خلال السنوات القليلة الماضية، وانضمت إليها الآن العراق وليبيا. ولدينا من زمن أبعد الصومال والسودان، ومن الزمن الذي بدأ ولن ينتهي في فلسطين.

جاء في «كليلة ودمنة» أن الخطر في ركوب البحر، إنما الخطر الأعظم في صحبة السلطان! وهؤلاء الذين يقصدون النجاة بحرا، ما صحبوا السلطان، بل فرّوا خوفا من بطشه. وهكذا فإن هؤلاء اعتبروا ركوب البحر مخاطرة ونجاة في الوقت نفسه، أما البقاء حيث يجري عليهم الاضطهاد والذبح فهو الموت المحقق. والناس في سوريا والعراق يعانون من ثلاثة قَتَلة؛ النظام، وأعدائه من فئات مسلحة شتى، والإيرانيين الذين جاءوا هم وميليشياتهم بزعم مساندة نظام المقاومة والممانعة… والعلمانية (القرمطية)!

إننا عندما نتحدث عن «الهرب الجارف»، لا نعني به المجاز، بل الحقيقة، ففي سوريا 9 ملايين مهجّر بين الداخل والخارج، وفي العراق مليونان ونصف المليون. والطريف والمؤسي وغير المنتظر كان ما ذكرته بعض مؤسسات حقوق الإنسان في الأيام الأخيرة عن الهجرة والتهجير في سوريا، إذ بحسب المؤسسة الأوروبية المتوسطية هناك 4 مصادر للخطر والهرب: قوات النظام وميليشياته، والمتطرفون («داعش» و«النصرة» وأشباههما)، والميليشيات الإيرانية، وميليشيات حزب الشعب الكردستاني، التي تهجّر هذه الأيام العرب من المناطق ذات الكثرة الكردية! بيد أن ما تقوله المؤسسة الأوروبية المتوسطية ينطبق أيضا على العراق، فهناك القوات العراقية، والتنظيمات الشيعية التي جمعها الجنرال سليماني، و«داعش» بالطبع، والنفور المتنامي بين الطوائف والمذاهب الذي قاد إلى تهجيرات متبادلة من قبل، وهو يؤدي الآن إلى هجرة إلى الخارج، تحت وطأة القتل المتزايد والمتبادل، ويقول الأكراد إنهم بعكس الميليشيات الشيعية لا يهجرون إلا من المناطق المتنازع عليها بينهم وبين السلطة المركزية. لقد استولوا على هذه المناطق التي كانت الحكومات العراقية تمنعهم من التحكم بمصائرها، وهم يمارسون تمييزا عرقيا، على طريقة عجم/ عرب القديمة التي تعطي هوية لهذه المنطقة، وتسلبها من أخرى. وتذهب في كل الأحوال إلى تثبيت هويات جديدة ما كانت موجودة، وإنما الذي كان موجودا تعددية هوياتية معقولة الوظائف في المجتمع والدولة والتاريخ. وبالفعل، فإن الواقع الجديد يفرض على الذين يريدون النجاة بقدر المستطاع الهجرة إلى خارج الأوطان تمهيدا لمتابعة الرحلة بحرا أو جوا إلى أوروبا وغير أوروبا. والمهاجر أو الهارب يخلف وراءه في هذه الحالة ثلاثة أعداء أو أربعة: نظام الكيماوي والبراميل المتفجرة، ونظام «داعش» و«النصرة» وسواهما، ونظام ولاية الفقيه وميليشياته، وميليشيات الحركات الكردية الجديدة. ومفوضيات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان تذكر أن هذا النزوح هو أكبر نزوح في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

ما الذي يأمله منفذو التهجير من وراء ذلك؟ المتطرفون يريدون أن تكون المناطق خالصة لهم حجرا وبشرا. أما النظام وإيران والأكراد فيطمحون إلى تغيير ديموغرافي يخلق أكثريات جديدة، ويفرض بالتالي تغييرا في الهوية والانتماء. لقد صار ممكنا الآن الحديث عن «لا عروبة» العراق. وفي الأمد المنظور يريدون أن يصبح الحديث عن «لا عروبة» سوريا أيضا! أما الأكراد فيقولون إنه لا يجوز تفويت الفرصة التاريخية بإنشاء مناطق خالصة، تقوم عليها الدولة الكردية دونما مشكلات مع الداخل أو الخارج!

مَن المتضرر الأكبر من هذه التهجيرات والتغييرات؟ بالطبع إن المواطنين السوريين والعراقيين هم الأكثر تضررا. أما في المدى الاستراتيجي فإن العرب هم المتضررون ولا أحد غيرهم.

ما المخرج من ظاهرتي القتل والتهجير؟ كانت قضية فلسطين هي المكان الأول الذي جرت فيه الظاهرتان بعد الحرب الثانية وقيام دولة إسرائيل. وقد صدرت قرارات دولية بمنع المصادرة، وإعادة اللاجئين، وأنشئت منظمة لرعاية المهجرين لحين عودتهم إلى أرضهم. وبالطبع فإن أحدا ما عاد، كما أن منظمة غوث اللاجئين لا تزال تعمل هنا وهناك إنما دون تفكير في الحقوق والهوية والانتماء، بل بالإبقاء على قيد الحياة! همرشولد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة قال في الخمسينات من القرن الماضي، عن الكونغو وليس عن إسرائيل، إن العلاج الذي ينهي المشكلة إنما يكون بإعادة هؤلاء البشر إلى أرضهم بأسرع ما يمكن! وما حصل شيء من ذلك في فلسطين والكونغو، لكنه حصل جزئيا في رواندا وبوروندي!

في حالة سوريا، لا مانع من عودة المهجرين إلى مساكنهم غير وجود النظام السوري الحالي ورئيسه بشار الأسد. ويقول العراقيون إن الحالة السورية لن تتكرر في العراق! لكن ما المانع من ذلك ما دام الإيرانيون هم أصحاب استراتيجيات تغيير هوية الأرض والسكان في البلدين؟!

إن الأمر المفزع هو اعتقاد إسرائيل من قبل، واعتقاد إيران الآن، أنه يمكن بقتل الناس وتهجيرهم تغيير هوية الأرض والسكان والوضع السياسي إلى غير رجعة. وبعد قرابة السبعين عاما ما استطاعت إسرائيل ذلك إلا بشكل جزئي. وفي سوريا والعراق فإن العملية تبدأ الآن. لذلك لا بد من التصدي للموضوع بسرعة، لا بد من إسقاط بشار الأسد بأي شكل، لتتوقف معاناة الشعب السوري من جهة، ولكي تتلقن إيران درسا بعدم إمكان تكرار التجربة الإسرائيلية.

هل يسقط النظام السوري؟ هذه هي حالة الضرورة القصوى للعرب!