Site icon IMLebanon

بحر الشتاء حكاية عشق يكتب الماء حروفها

 

طائفة سرّية “غامضة” تُقدّسه… في “طقس” يومي

 

 

لكم بحركم ولنا بحرنا. بحركم بحر الصيف والشمس واللهب وبحرنا بحر الشتاء والعواصف والأنواء. لكم بحر الزحمة والضجة ولنا بحر الوحدة والتأمل. إنهم رواد بحر الشتاء يلتفون حوله في طقوس تكاد تكون سرية لا يعرفها غيرهم ولا يفهمها، يمارسونها بعيداً عن أعين الفضوليين فلا أنظار تراقبهم أو تترصد حركاتهم إذ نادراً ما يهتم الناس بالبحر في غير موسم ينظرون إليه ولا يرونه فيما عشاقه يعيشون فيه ويعيش فيهم.

في أواخر أيلول وبدايات تشرين “ينتهي البحر” يحمل شنطته ويودع محبيه. ينزوي في خزانة منسية يقبع فيها وحيداً حتى تحمى شمس ايار فيستعيد روحه ويخرج الى لقاء الشواطئ من جديد. في غيبته ينظر إليه رواده من بعيد فيثير فيهم منظره شجناً او رومنسية عابرة لكن تبقى بينه وبينهم مسافة يسكنها البرد والمطر. لكن ثمة بحر آخر يهوى الشتاء والريح والبرد والثلج لا يغيب عن عشاقه أبداً. بينه وبينهم علاقة غريبة هي نوع من الوله والذوبان. قد يثور ويهوج وترتفع أمواجه ويتحول هدوءه نواً وامواجاً عاتية ثائرة أو يستكين هادئاً متماوجاً منتظراً.

 

لهذا البحر متعبدون يرفضون الابتعاد عنه حتى في عز نوه وثورته يلاقونه يومياً، كل وفق هواه، بعضهم يجلس قبالته يتأمل سكونه وثورته، بعضهم يرمي نفسه في أحضانه الباردة ليشعر بالدفء وبعضهم يمارس على شاطئه أو بين أمواجه هوايات تشغله عن متاعب يومه. للبحر مع هؤلاء قصص كثيرة بعضها بات معروفاً تردده الألسن وكثيرها مخفي لا يعرفه إلا اصحابها.

 

وجه بحار عتيق…

 

بيبي عبد ذاك البحار العتيق الذي ارتبط اسمه بمدينة جبيل والتحمت حياته بحياة بحرها حتى صار صخرة من صخوره عشق البحر منذ طفولته في المكسيك وكان يهرب من المدرسة إليه يلتجئ في أحضانه ويجد فيه كنوزاً مخفية. حين عاد الى لبنان ترسخ حب البحر فيه أكثر فأكثر وعشق الشاطئ اللبناني ورأى فيه جمالاً لم يره غيره فأنشا على شاطئ الأوزاعي الرملي منتجعاً بحرياً استوحى اسمه وتصميمه من المكسيك. ثم تنقل بين اشغال عديدة لكن قصة غرامه بالبحر لم تخبُ ولم تكتمل إلا في جبيل مع بداية الستينات حيث أطلق نادي الصيد او Fishing Club الذي ذاع صيته عالمياً بين المشاهير. الشهرة والمال والأعمال كما النساء لم تبعد بيبي عبد عن حبه الأول وهو البحر فكان رفيقه الدائم والسباحة في مياهه طقس يومي لا تثنيه عنه ظروف مناخية ولا اشغال يومية. لم تطفئ سنوات العمر حرارة علاقته الحميمة بالبحر بل استمر يمارس حبه له حتى آخر يوم في حياته في كانون الأول 2006 نزل الى الماء ثم ألقى مرساته واستكان أخيراً. أحب البحر حتى الأعماق وكان يغوص فيه ليستكشف كنوزه ويعود بالجرار و الحلي والآثار من أعماق البحر الى متحفه الجبيلي. لم يخش يوماً غضب البحر ولا عواصفه بل كان يقول جملة شهيرة أن البحر حين يغضب يغسل الأرض..

 

 

 

طائفة البحر السرّية

 

بيبي عبد واحد من “أبناء بحر الشتاء” تلك الطائفة السرية الغامضة التي تقدس البحر وتقدم له فروض الطاعة يومياً ومثله قاسم رجل ستيني من شلة صباحية تضم أكثر من عشرة أفراد كلهم في منتصف العمر أطباء، مهندسون واصحاب أعمال خاصة، بيارتة أصيلون، يعيشون في أحياء مختلفة من العاصمة الحبيبة ويلتقون كل صباح على كورنيشها. عند الفجر يفيقون وفي الساعة الرابعة والنصف صباحاً يكون موعدهم على الكورنيش في منطقة عين المريسة تجاه الجامعة الأميركية. معاً يقومون بساعة من المشي السريع ترافقها تمارين رياضية ثم ينزلون جميعاً للسباحة في بحر بيروت. لا تخيفهم العواصف وتسمياتها ولا يثنيهم مطر او برد عن ممارسة طقسهم اليومي هذا ولا تمنعهم عنه ظروف أمنية ولا حتى حروب موسمية. في المياه يطلقون العنان للأغاني والضحكات والمزاح وبعضه من العيار الثقيل وبأعلى صوت فلا رقيب عليهم ولا حسيب في هذه الساعة المبكرة من الصباح فحتى الشمس تطل عليهم بخجل غير مستعدة بعد لخوض غمار النهار. في الطقس العاصف حين يكون البحر شديد الهيجان وأمواجه عالية تضرب الصخور بعنف يستبدلون البحر ببركة السباحة التابعة لمسبح الجامعة الأميركية ويتابعون ذاك الروتين اليومي الذي يمارسونه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة. بعد السباحة لساعة ينزعون “المايوه” ليرتدوا محله ملابسهم الشتوية السميكة ويكملوا الصبحية في أحد مقاهي عين المريسة الصغيرة. هناك يشربون قهوة الصباح مع الزوجات اللواتي يوافينهم الى المقهى ومن بعدها وحين تكون الساعة قد قاربت السابعة والنصف يتوجهون كل الى عمله ويعود من يعود الى بيته.

 

يحفل الساحل اللبناني على امتداد شواطئه ومنتجعاته البحرية بمجموعات كهذه تعشق البحر بكل ظروفه. ومن بينها مجموعة من الشباب والرجال تتراوح أعمارهم بين الـ20 و الـ80 يمارسون السباحة يومياً من دون انقطاع ومن بينهم البطل اللبناني والعالمي وسباح المسافات الطويلة وسام ناصر. لم يعد البحر يشكل تحدياً لهذا السباح العتيق فقد عرف كيف ينتصر عليه هو الذي قطع المسافة بين صيدا وبيروت سباحة عام 2012 وسبح من بيروت الى عمشيت ومن صور الى صيدا ووثق مغامراته البحرية هذه في كتاب صار يعتبر مرجعاً عربياً في كل ما يختص بالسباحة وأنواعها وفوائدها ومعداتها في الصيف كما في الشتاء.

 

بعيداً عن شاطئ بيروت وفي طبرجا تحديداً يقوم مجتمع “بحري” له تقاليده وعاداته التي ترسخت على مر السنين. هنا تلتقي مجموعة من الشباب والكهول صباح كل أحد في كل الفصول للعب “الباليت”. والباليت لمن لا يعرفها رياضة تشبه كرة المضرب لكنها تستعمل “راكيت” خشبية خاصة وتمارس بشكل عام على الشاطئ الرملي ويمكن اعتبارها الرياضة الوطنية الأحب على الشواطئ اللبنانية ولها الكثير من المحبذين. تلعب جماعة الأحد بالتناوب لمدة ساعتين او أكثر ثم يأخذ أفرادها دشاً بارداً مباشرة من الحنفية الخارجية ويسرعون الى البحر للارتماء في احضانه بعد تعب المباراة. البرد لا يخيف أجسامهم الرياضية التي تأقلمت مع برودة المياه كسباحي الجليد في روسيا وبلدان اسكندينافيا. بعد مرحلة السباحة تمتد طاولة الغداء في فيئ شجرة تقي من الهواء لا من الشمس جنبها منقل تنتظر فوقه اشياش اللحمة وصول غالون العرق ليكتمل برنامج الأحد. وما إن تطل الشمس برأسها في كوانين أو شباط اللباط حتى تجد نساء المجموعة ايضاً قد استنفرن وبدأن موسم البرونزاج. تقول رولا وهي إحدى سيدات المجموعة: ارتدي بداية عدة طبقات من الملابس وابدأ يومي بممارسة رياضة المشي وبعد بضع دقائق أخلع الجاكيت واكمل “بالسورفتمان” حين ترتفع حرارة جسمي انزع عني طبقة ثانية من الملابس وابقى بالشورت والقميص حتى اذا انتهيت أكون قد صرت بالمايوه فآخذ دشاً بارداً وانزل الى البحر لأعود بعدها والتف بالمنشفة ولأسرق الشمس وأسبق الجميع الى اللون البرونزي. ومعها تجلس مجموعة من الصبايا تحت شمس الشتاء الخجول والهواء الشمالي اللاذع حتى ليتساءل معظمنا هل يستحق البرونزاج كل هذه التضحية؟ أم أنه شغف بالبحر يتحدى كل الظروف؟

 

للبحر وجوه

 

لبحر الشتاء رياضات يتجاهلها بحر الصيف ولها فيه طعم مختلف. فالغطس شتاء غيره صيفاً وكذلك ركوب الأمواج او الصيد. وركوب الأمواج متعة حقيقية يمارسها محبوها بولع في الشتاء حين تعلو الأمواج وتشتد سرعتها فتكاد أمواجنا اللبنانية لا سيما في شكا والجية تقارع أمواج المحيط الهادئ وشواطئ هاواي. تقول إحدى الصبايا من عشاق ركوب الأمواج عن رياضتها هذه: تمنحني شعوراً غريباً لا تمنحه أي رياضة اخرى ولا حتى الحياة ذاتها، شعور قوي يتجدد كل مرة لأن الأمواج كما الظروف المناخية لا تكون ابداً ذاتها.

 

اتمرن في الشتاء مع المجموعة حيث أشعر أن الشاطئ لنا وحدنا لا ينافسنا أحد عليه واننا ملوك البحر. أعشق العواصف أرتدي بذلة خاصة تقي من البرد، وانتظر موج الشتاء من دون خوف. الموجة العالية الهادرة تجعلني اتحد مع البحر وهذا ما يمنحني إحساساً مطلقاً بالحرية لا يشترى بمال.. ركوب الأمواج يعلمنا التواضع لأننا نشعر فيه بقوة الطبيعة لكنه في الوقت ذاته يحثنا على تخطي حدودنا للذهاب أبعد وأبعد في تحدينا.. لكن هذا لا ينفي وجود المخاطر فالموج ولا سيما القوي منه المترافق مع ريح قوية هو كجبل من المياه يتدفق علينا وقد نقع ونرتطم بالصخرأو تضربنا المياه وأحياناً قد يطير اللوح ويرتطم بنا حده السفلي الجارح كالسكين، لذا فإن اول ما نتعلمه هو كيف نحمي انفسنا عند ركوب الأمواج العالية.

 

الغطس في الشتاء نوع من اللعب على حافة الخطر لأن الغطاس يجهل ما يخبئ له البحر وتياراته في الشتاء. لكن الغطاسين المتمرسين روضوا البحر وجعلوه ملعبهم. يرتدون تلك البذلة الخاصة السميكة التي تحميهم من البرد وينزلون الى الأعماق مهما بلغت برودة المياه. شرطهم الوحيد أن تكون المياه صافية في العمق حتى لو كان المطر يتساقط من فوق. يقول طوني وهو بحري عتيق وخبير في شؤون البحر إن بذلة الغطس الشتوية يجب ان تكون سماكتها ما بين 3 الى 5 ملم ولا شك أن الغطاس بداية سيشعر ببعض البرد حين تدخل المياه داخل البذلة لكن ما هي إلا دقائق قليلة حتى تأخذ المياه حرارة الجسم وتتآخى معه فلا يعود يشعر ببرودتها بل يستمتع بالغطس وكأنه في بحر دافئ. من جهة أخرى يؤكد طوني أن الأسماك في الشتاء بسبب البرد والغيوم تصبح أبطأ حركة من الصيف واصطيادها اسهل كما أن انخفاض الضغط الجوي يؤثر على الأسماك ويجعلها تتجه نحو الشواطئ ما يسهل عملية صيدها كما أن الأسماك الكبيرة أكثر حركة في الظروف المظلمة والرؤية المعدومة لذلك فإن الغطاسين الذين يعتمدون الصيد بالبارودة يجدون في أيام الشتاء ضالتهم في البحر ويحظون بالأسماك الكبيرة أكثر مما يفعلون في الصيف.

 

سخاء البحر وحظ الصياد

 

صيادو الأسماك بالطرق التقليدية، متمرسون كانوا أو هواة، يصبح البحر حليفاً لهم في الشتاء يعطيهم بسخاء إلا نادراً حين يغضب ويزمجر ويكسر قواربهم ويمزق شباكهم، أما في أيامه العادية فهو شديد الكرم معهم يضعون الشبك والشرك والمبطن والأقفاص قريباً من الشاطئ حيث لا سابحين ولا قوارب سريعة او مركبات جيت سكي يستعرض اصحابها مهاراتهم فتمزق الشباك او تخيف الأسماك، لذا تكون غلتهم كثيفة في الشتاء لا سيما حين يكون البحر مستسلماً لغفوة هانئة تحت لحاف البرد القارس.

 

أما صيادو البر، فالقصبة رفيقتهم بل حبيبتهم يمتشقونها ويقصدون الشاطئ في الصيف كما في الشتاء في الصحو والمطر وفي الأيام المشمسة او الغائمة. جريس واحد من هؤلاء يخرج الى الصيد كل صباح كمن يقصد وظيفة يعتاش منها. لا يعادي البحر في الصيف لكنه لا يحبه فرواد الشواطئ يعكرون عليه صفو وقفته ومناجاته للاسماك فهو يحدثها ويتحبب إليها ويتوعدها احياناً وهي تسمعه كما يسمعها. في الشتاء يستأنس برفقتها بعيداً عن كل الناس، تصبح له وحده لا شريك له فيها إلا بضعة صيادين مثله تمرسوا الوقفة أمام البحر لساعات طوال لاصطياد بضع سمكات تجلب الحظ لنهارهم.

 

هكذا هم وهكذا هو، حكاية عشق مختلفة يكتب الماء حروفها ولا يمحوها الشتاء. طائفة مسالمة، تسجد لزعيم يعطي بسخاء…