أستعرض في الجزء الثاني من هذه المقالة، الفرصة التاريخية الثانية لروسيا في الشرق الأوسط والآفاق المستقبلية للدور الروسي (أي الفرصة الثانية)، من خلال رؤيتنا كشرقيين للمشهد العالمي الراهن:
الفرصة الثانية: عهد البلاشفة والسوفيات
تعاطت روسيا البلشفية في الأيام الأولى لـ «ثورة أكتوبر» بالمسألة الشرقية تعاطياً هامشياً وبمحض الصدفة، عندما كشفت للعرب سراً خطيراً استقته من الأرشيف القيصري حول مؤامرة غربية (فرنسية ـ بريطانية) لتقسيم المشرق العربي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية كنتيجة حتمية للحرب العالمية الأولى، وذلك بموجب اتفاقية «سايكس ـ بيكو» المعقودة في لندن بين البريطانيين والفرنسيين. ومع أن هذا التعاطي المبكر كان هامشياً، فقد كان من اللافت أن الدولتين العربيتين المستقلتين في ذلك الوقت وهما المملكة المتوكلية اليمنية والمملكة العربية السعودية قدّرتا هذا الموقف الروسي، فكانت المملكة المتوكلية اليمنية بقيادة الإمام يحيى حميد الدين أول دولة في العالم اعترفت بالدولة الروسية الجديدة في عشرينيات القرن العشرين، ثم تلتها المملكة السعودية (1926)، وقد جاء ذلك بناء على توصيات من مرجعيات عربية مشرقية في سوريا ولبنان، أدركت أهمية جذب روسيا الى القضايا العربية المحقة كقوة مانعة لتمادي التسلط الاستعماري الغربي. بل إن الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية أوفد نجله الأمير فيصل، الذي أصبح ملكاً في ما بعد، كأول سفير للمملكة السعودية الى الكرملين في عهد جوزف ستالين. لكن تلك العلاقات مع السعودية لم تدم طويلاً، بل انقطعت في 1938 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم تحولت تالياً الى عداء عقائدي سافر، والى قيام السعودية تالياً بتدخلات مقلقة ضد روسيا في عقر دارها من خلال دعم حركات التطرف الإسلامي في أفغانستان وبلاد الشيشان.
ولذلك، لا يمكننا القول بأنه كانت هناك قبل الحرب العالمية الثانية سياسة سوفياتية واضحة ومحددة في الشرق الأوسط، باستثناء رعاية بعض الأحزاب الشيوعية الوليدة في الدول العربية الواقعة تحت الانتداب الغربي في المشرق، والواقعة تحت الاستعمار في المغرب. لكن الوضع بدأ يتبلور قليلاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإن بقي فيه الكثير من الغموض والالتباس، يعود جانب منه الى تعقيدات القضية الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل في قلب المشرق العربي، واعتراف الاتحاد السوفياتي السريع بتلك الدولة.
كانت السياسة السوفياتية قائمة على تثبيت دعائم السلام، وتأكيد استقلال الدول العربية، وعدم التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية واضحة وقاطعة، لكنها مع الأسف لم تدم طويلاً بسبب سياسة الأحلاف العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة وانخراط بعض الدول العربية في تلك الأحلاف، من «حلف الدفاع المشترك» الى «مبدأ أيزنهاور»، الى «حلف بغداد». لكن بعد ذلك أصبحت السياسات السوفياتية في الشرق العربي مركَّبة ومحفوفة بالكثير من التداخل والغموض بين عناصر ربما كانت متناقضة عند تفكيكها للتحليل.
ويمكننا فرز ثلاثة عناصر أساسية منها ما ظلّ مستمراً الى اليوم:
العنصر الأول والأهم، والذي ما زال مستمراً، هو تسليح بعض الجيوش العربية الحاكمة في دولها في حالات معينة بأسلحة سوفياتية دفاعية بطبيعتها بهدف حفظ الاستقرار وعدم كسر التوازنات.
العنصر الثاني هو العلاقة الملتبسة مع الأحزاب الشيوعية العربية المعارضة لحكومات يدعمها الاتحاد السوفياتي، وتغاضي الحكومات السوفياتية عن قمع الأحزاب الشيوعية وتدميرها في بلدانها، وخصوصاً في مصر الناصرية، وفي مختلف عهود الجمهورية العراقية التي قامت منذ ثورة الجيش العراقي في تموز 1958، وفي سوريا خلال عهد الوحدة مع مصر وبعد ذلك أيضاً.
والعنصر الثالث، وهو من موروثات العهود القيصرية، والذي أثبت أنه قابل للتجدد في كل وقت، هو بروز دور الكنيسة الأرثوذكسية من خلال جولة في سوريا ولبنان قام بها البطريرك المسكوبي أليكسي الأول العام 1960، والنتائج الواعدة التي أسفرت عنها تلك الجولة، ما فتح أعين الديبلوماسية الأميركية، ودفع الولايات المتحدة الى التدخل في شؤون الكرسي الأنطاكي وتذكية صراع بين المطارنة داخلها، وبالتالي السيطرة على تلك الكرسي.
وأوجه التناقض بين هذه العناصر لا يقتصر على تأثيراتها داخل المجتمعات العربية في مصر والمشرق، بل يتعدى ذلك الى كونها تخالف في الجوهر التركيبة السوفياتية ذاتها، بمعنى أن التسليح السوفياتي للجيوش العربية لم يؤثر كثيراً في فاعلية تلك الجيوش، ليس لأنه أقل نوعية، إنما لكون ذلك التسليح غير مشروط بشروط سياسية سواء لجهة العلاقات الخارجية لتلك الدول، أو لجهة التوجهات الأمنية الداخلية المانعة لقيام أي رابط عضوي مع الاتحاد السوفياتي.
وهذا في النتيجة سهَّل انتقال بعض الدول والجيوش العربية، مثل مصر ما بعد جمال عبد الناصر، الى المعسكر المضاد لروسيا، فخلق ذلك بدوره مفارقة مربكة، حيث بقي الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الموالية له في ذلك الوقت قاطعين علاقاتهم مع إسرائيل بسبب عدوانها الواسع في حزيران 1967، فيما قامت علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية.
فقد تساءل كثيرون من العرب في تلك المرحلة كيف يجوز التنكّر بهذا الشكل الذي مارسه أنور السادات للتضحيات الروسية في سبيل تقدم مصر وصمودها، من بناء السد العالي، إلى تسليح وإعادة تسليح الجيش المصري ودعمه في حرب الاستنزاف على قناة السويس، الى إقامة مئات المصانع والمشاغل التي حفظت الاستقلال الاقتصادي لمصر بدرجة عالية. وكان التعاطي الروسي مع مصر عميقاً وكثيفاً الى درجة أنه أثار أحياناً حفيظة الروس أنفسهم، ولذلك كانت الخيبة العربية والروسية كبيرة من التحوُّل المصري المشار اليه، ولا سيما من الناحية الأخلاقية.
أما مسألة الأحزاب الشيوعية، فهي لا تخلو أيضاً من بعد أخلاقي، لأن صمت موسكو عن التنكيل بالشيوعيين من قبل دول عربية هي في الظاهر حليفة للاتحاد السوفياتي، ترك تساؤلات مؤلمة داخل الأحزاب الشيوعية الموالية للاتحاد السوفياتي، وداخل المجتمعات العربية التوَّاقة الى الخروج من تحت الهيمنة الاستعمارية الغربية، وربما داخل الحزب الشيوعي السوفياتي ذاته. وفي رأيي أن تلك السياسات الملتبسة والمتناقضة في الشكل والمضمون إزاء العالم العربي، كانت من العوامل الرئيسة التي أدت الى تراجع الأوضاع السوفياتية، والى توسع الانخراط العربي في ممارسات عدائية تجاه الروس وفي عقر دارهم.
وعنصر التناقض الثالث المتعلق بتجديد الكنيسة المسكوبية وتحريكها على الساحة العربية المشرقية، لم يكن له أن يفعل فعله المرتجى، ليس فقط بسبب محاربة الآخرين له، بل بسبب التناقض العضوي بين الدولة السوفياتية وبين الكنيسة الأرثوذكسية، حيث اتصفت تلك العلاقة بينهما بالعداء السافر والمتواصل منذ انتصار الثورة البلشفية في العام 1917. ولم يبدأ نوع من الانفراج في تلك العلاقة إلاّ بعد الغزو الألماني لروسيا في الحرب العالمية الثانية، فاتخذت الكنيسة دورها الوطني التاريخي من حيث مقاومة الغزو الخارجي بصرف النظر عن علاقتها مع الدولة القائمة.
ثم جاءت مرحلة سقوط النظام السوفياتي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين لتشهد ضموراً في الدور الروسي على جميع المستويات، تقابله قطبية واحدة في قيادة العالم من قبل الولايات المتحدة تقوم على ركيزتين: الركيزة المادية والركيزة العقائدية. الأولى مؤداها أن الحالة الإمبريالية الأميركية كلية القدرة لا يستطيع أحد في العالم أن يقهرها، والركيزة الثانية مؤداها أن النظام الرأسمالي متفوّق بطبيعته على أي نظام اشتراكي، وبالتالي فإنه يعطي معتنقيه تفوقاً عسكرياً، واقتصادياً، وثقافياً، وسياسياً، ويعطي الدولة القائدة فيه، وهي الولايات المتحدة، تفويضاً بتقرير مصائر سائر الدول والأقاليم حول العالم. وقد لعبت الدول العربية، والدول النفطية منها على وجه الخصوص، دوراً مهماً، منه جانب ظاهر وآخر خفي، في الوصول الى هذا الوضع المشار إليه، ابتداءً من انقلاب مصر على الاتحاد السوفياتي في السبعينيات، ثم الدور السعودي في تمويل حرب أفغانستان ضد الجيش الروسي في الثمانينيات، وانتهاءً بالاحتلال الأميركي للعراق في مطلع الألفية الثالثة، ثم إشاعة الفوضى العارمة على امتداد الرقعة العربية من خلال تشجيع الحركات الإسلامية المتطرفة.
هذا التطور الخطير الذي أطلقوا عليه في الغرب اسم «الربيع العربي» وحاولوا من خلاله إسقاط الدولة السورية ونظامها وتفكيك جيشها الحامي للدولة ووحدة البلاد، وضَعَ سائر الأقليات التاريخية فيها، وخصوصاً الأقليات المسيحية في خطر داهم، والمناطق المتعمَد تفكيكها يراد لها أن تتحول الى أقاليم أو إمارات متناحرة.
وما يجب أن يدركه كل مهتم بالشأن السوري هو أن الغرب بتشجيعه التطرف الإسلامي في المنطقة جعل المسيحيين، وهم أصحاب وسكان البلاد الأصليون، مجرد رهائن. علماً أن وجود المسيحيين في الشرق مرهون بدورهم الوطني والقومي، فإذا حرموا من الدور حرموا من الوجود فيصبح بقاؤهم ورحيلهم سيَّان.
المظلة الروسية الراهنة وآفاقها
لقد سقتُ هذه الملاحظات بشيء من الإسهاب على افتراض أن روسيا الحالية المتحررة من أثقال الماضي القيصري والسوفياتي على السواء، قد استخلصت الدروس والعبر من الحقب السابقة المشار اليها، وبالتالي تسير الآن في مسار حرّ غير مقيَّد بالرواسب السابقة. وكان الموقف الروسي الراهن في سوريا مشجّعاً على الافتراض بأن الدور الروسي الجديد في منطقتنا يفتح آفاقاً واسعة للتعاون المثمر على أسس الصداقة والمصالح المتبادلة والثبات على المواقف، فلا تتكرّر التجربة المصرية السابقة في بلاد الشام.
ومن المداخل الأساسية في هذا الشأن كيفية التعاطي مع الأقليات، لأنها باتت بحاجة ماسة الى التطمين الموثوق من جهة دولية لها مصداقية وموثوقية، وروسيا هي أكثر تلك الجهات أهلية لبسط مظلتها الضامنة للمسيحيين وبقية الأقليات في الشرق، لأن مثل تلك الضمانة يؤمِّن الاستقرار والازدهار للدول المهدّدة فيحمي ذلك أمن تلك البلدان ويحمي في الوقت ذاته أمن الجهة الضامنة وازدهارها.
ولتوضيح هذه الفكرة، أقول إن المقصود بالحماية والضمانة للأقليات المسيحية وغير المسيحية، لا يعني حمايتها من شريحة محلية أكبر منها، كما قد يفترض البعض، لأن سائر منطقة المشرق مؤلفة من أقليات، فليس في هذه المنطقة أكثرية وأقلية، بل كلها من الأقليات وإن كانت هناك أقلية أكبر من أقلية أو أكبر من باقي الأقليات. لكن مفهوم الحماية والضمانة في هذه المنطقة يعني حمايتها من الـغزو الخارجي بشتى أشــــكاله، ومنه بشكل خاص تحريض فئة على فئة ونشر الفـــوضى خدمة لدول أجنبية ومصالـــح مشبوهة المقاصد والغايات.
ومن الواضح الآن أن روسيا الحالية شكَّلت سداً منيعاً لرد الاجتياحات الخارجية لسوريا من قبل قوى دولية وإقليمية نافذة وشديدة المراس، ومنها على وجه الخصوص تركيا الأردوغانية الطامحة الى إحياء الخلافة العثمانية بهدف الهيمنة الإقليمية الواسعة النطاق من خلال السيطرة على سوريا. وأنا بصفتي منتمياً الى الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، أدعو الى قيام شكل مؤسسي من الاتحاد بين الكنيسة الإنطاكية والكنيسة الروسية يقوم بدور المرجعية العالمية للتجمّعات الأرثوذكسية حول العالم، لتصــبح الكنائس الأرثوذكــــسية أكثر قدرة على تثبيت المسيحيين في أرضهم والعـناية الثقافية والاجتماعية بمجتمعاتهم، ورفع مستواها على المستويات كافة.