سياسة في الواجهة
يغالي الرئيس المكلف سعد الحريري أكثر مما ينبغي ــ وبالتأكيد أكثر بكثير مما يصدّقه اللبنانيون ـــــ في القول إنه هو الذي يؤلف الحكومة. الدستور يمنحه ورئيس الجمهورية هذا الاختصاص، ما داما يتساويان في توقيع المرسوم. لكن الطبيعة اللبنانية تحرمه إياه
تقليدان اثنان لم يتغيّرا البتة منذ اتفاق الدوحة عام 2008. أولهما، أن الرئيس المكلَّف تأليف الحكومة ليس هو بالممارسة ـــــ لا في النص ـــــ مَن يؤلف الحكومة التي سيرأَس. ثانيهما، أن الدور الذي يضطلع به الوزير جبران باسيل في تأليف الحكومة الجديدة هو نفسه الدور الذي أداره الرئيس ميشال عون مذذاك حتى انتخابه رئيساً للجمهورية.
ليس أدلّ مثال على ذلك، شريط تأليف الحكومات المتعاقبة منذ الرئيس فؤاد السنيورة عام 2008 إلى الرئيس تمّام سلام عام 2014. لا تخرج حتماً على هذه القاعدة حكومة تصريف الأعمال مع الرئيس سعد الحريري عام 2016، وإن لم يطبعها هذان التقليدان على نحو نافر في مطلع العهد. هذه المرة، أصبح عون على رأس الجمهورية، وانتقل باسيل من مكانة «الوزير المدلل» لدى عمّه في حكومات 2008 ـــــ 2014 إلى دور المفاوض الرئيسي للرئيس المكلف بصفتين متلازمتين: أنه المكلَّف من الرئيس، ويحظى بثقة غير مشروطة في كل ما يدلي به أو يقترحه أو يشترطه، كأن الرئيس هو الذي يفعل، وأنه يرأس الكتلة الأكبر عدداً في البرلمان.
تأليف حكومات ما بعد اتفاق الدوحة: واجهته المزعومة الرئيس المكلَّف، وصانعوه الفعليون الكتل (هيثم الموسوي)
ليست مفارقة أنها المرة الأولى منذ اتفاق الطائف، يتزعم المسيحيون الكتلة النيابية الأكبر، شأن ما كانوا ـــــ مع حلفائهم ـــــ في ظل الكتلة الدستورية للرئيس بشارة الخوري في عقد الأربعينيات ومع «الحلف الثلاثي» في منتصف عقد الستينيات حتى نهايته.
على مرّ سني 2008 ــــ 2014 حظي الرئيس المكلف بغالبية مرجّحة، لكنه لبث في تكليفه أشهراً طويلة بسبب الشروط التي كان يفرضها عليه عون حينذاك، رئيس التيار الوطني الحر، كي يوافق على مشاركته في الحكومة. أولها عام 2008 بإصراره على حقيبة الاتصالات، وآخرها عام 2014 بإصراره على حقيبة سيادية هي الخارجية. رجله الدائم هو باسيل الذي تسبّب طوال 135 يوماً ـــــ مع سواه ـــــ في تأخير تأليف الحريري حكومته. شرطا الجنرال: توزير باسيل رغم خسارته انتخابات ذلك العام، وتمسكه بحقيبة الاتصالات، وإلا فحقيبة الطاقة إلى أن نال الأخيرة.
لا حاجة إلى جهد استثنائي في مراجعة تأليف حكومات ما بعد اتفاق الدوحة، إذا كان لا بد من استثناء تلك التي سبقتها في ظل سوريا في لبنان فلم تكن أحسن حالاً. أفصحت الحكومات تلك عن أن التكليف في وادٍ، والتأليف في وادٍ. في الأول يُسقط من يد رئيس الجمهورية موقفه كونه ملزماً نتائج الاستشارات النيابية الملزمة التي تفرض ـــــ بما يشبه الانتخاب لكن في قصر بعبدا ـــــ تسمية الرئيس المكلف. في الثاني شأن مختلف تماماً. ما إن تُكلّف الشخصية السنّية الحائزة غالبية نيابية تأليف الحكومة حتى يخرج الاستحقاق من متن الدستور كي يهبط بين أيدي الأفرقاء السياسيين الذين باتوا يمثلون ــــ متفرّقين ــــ موازين القوى في الشارع، بعدما نجح السوريون في حصرها بهم ما بين عامي 1990 و2004 على أنهم هم الناطقون باسم حلفائهم.
على نحو كهذا، رسم الأفرقاء اللبنانيون وارثو الدور السوري ـــــ وقد انضم إليهم فريقان لم يكونا في عداد الحقبة المنصرمة هما التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية ـــــ تقاليد تأليف حكومات ما بعد اتفاق الدوحة. واجهتها المزعومة الرئيس المكلف، وصانعوها الفعليون هم الكتل الكبيرة:
أولها، التنازع على الحقائب السيادية الأربع، مع أن هذه أُدرِجت للمرة الأولى في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990 ولم تنقطع مذذاك. لم تكن في أيٍّ من الحكومات المتعاقبة مشكلة. بيد أنها منذ اتفاق الدوحة أضحت شرطاً لازماً ليس لتأليف الحكومة فحسب، بل للتناحر عليها بين الطوائف الأربع الرئيسية الموارنة والسنّة والشيعة والأرثوذكس، الذاهبة أكثر فأكثر إلى تكريس حقائب بعضها لطائفة دون أخرى.
ثانيها، تحوّل حقائب إلى ما يشبه «دويلات» لأحزاب تتشبّث بها بعناد غير مسبوق، فلا تبصر الحكومة النور من دونها: حقيبة الداخلية بعد حقيبة الاتصالات «دويلة» تيار المستقبل، مثلما حقيبة الطاقة أمست «دويلة» التيار الوطني الحر والتحقت بها منذ عام 2014 حقيبة الخارجية والمغتربين، فيما بدأت حقيبة المال منذ حكومة سلام تتحول «دويلة» الثنائي الشيعي، وإن لأسباب يُعزى بعضها إلى اتفاق الطائف، والبعض الآخر إلى جلوس المثالثة على طاولة الليرة اللبنانية.
ثالثها، أن الكتل الرئيسية ـــــ الشريك الفعلي غير الملحوظ في الدستور ـــــ بات كل منها يملك «فيتو» حقيقياً لتعطيل التأليف، ما لم تُلبَّ شروطه، أو يجاري تسوية الدقائق الأخيرة. أضحى هؤلاء هم الذين يؤلفون الحكومة، لا الموقّعان الوحيدان في مرسومها. الواضح أن هذا القياس لا يأخذ بالضرورة تساوي الأحجام. لا حكومة ما لم يرضَ النائب السابق سليمان فرنجية بالحقيبة الممنوحة لوزيره، من دون أن يرأس كتلة في حجم كتل الرئيس نبيه برّي والحريري وحزب الله والتيار الوطني الحر والنائب السابق وليد جنبلاط والقوات اللبنانية. في حكومة تصريف الأعمال ــــ وكان نوابه ثلاثة منذ انتخابات 2009 ـــــ تشبّث بحقيبة الاشغال العامة والنقل إلى أن حصل عليها. بذلك، فإن توازن القوى ــــ لا الأحجام المنتفخة ـــــ هو الذي يصنع الحكومات.
حقائب أضحت «دويلات» أحزاب لا تؤلف من دونها حكومة
قد يكون أنموذج النائب طلال أرسلان، بعدما ضُم إليه ثلاثة نواب موارنة بالإعارة من التيار الوطني الحر، خير دليل على قوة «الفيتوات» المتبادلة. اليوم يتقن حزب القوات اللبنانية للمرة الأولى منذ دخوله الحكومات عام 2005 لعبة «الفيتوات» التي حُرم إياها. أحجم عن المشاركة في حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي وسلام بسبب شروط رئيسه سمير جعجع، لكنهما تألفتا رغماً عنه، ولم يكن قد عثر وقتذاك على «الفيتو» كالآن. الواضح أن حزب الكتائب يكاد يكون الوحيد اليوم بلا «فيتو» بسبب وجوده في أرض بور، ينبت فيها الخصوم لا الحلفاء.
رابعها، أن الأفرقاء إياهم لا يكتفون بتحديد أحجامهم في الحكومة إلى حد فرضها على رئيسي الجمهورية والحكومة، بل يتشبّثون بحقائب لا يتزحزحون عن المطالبة بها ــــ وأبرزها تلك المدرارة ــــ وهم، لا الرئيسان، يسمّون الوزراء. الواقع أن تحديد الأحجام وتوزيع الحقائب وإنزال الأسماء فيها في صلب الصلاحية المنوطة نصاً بالرئيس المكلف على أنه هو الذي يؤلف الحكومة، فيما الدائر حتى الآن لا صلة نسب له بالرئيس المكلف العالق في موقف محيّر: ينتظر أن يزوره باسيل الذي بدوره لا يستعجل مقابلة الحريري، ويقلب قاعدة التأليف، إذ يطلب منه هو التنازل. فإذا الرجل أقرب ما يكون إلى المفتاح الفعلي للحل. المعلن في موقفه أنه هو الذي يقول ماذا تكون حصة جنبلاط وجعجع، وهو الذي يشيل من يد ويضع في أخرى كي يوزّر أرسلان، وهو ـــــ لا الرئيس المكلف ـــــ يضع معايير التوزير كي يقول إنه صاحب حصة الأسد.
ألم يكن ذلك ـــــ وإن جزئياً مرتبطاً بالحصة المسيحية حصراً ــــ دور عون قبل انتخابه رئيساً؟ لا يضيره اليوم ـــــ وهو رئيس للدولة ـــــ أن يستمر هذا الدور فضفاضاً في التيار الوطني الحر بعدما أصبح جبران باسيل رئيسه.
الأكيد أن سرّ الرئيس في التأليف يُقيم في صهره.